البعلاتية: مثوى ... ومسار


يا ‌مدفن التّقوى ويا مثوى الهدى *** منّي عليك تحية وسلام

مقبرة البعلاتية مقبرة مشهورة ومعروفة لدى العامة والخاصة في مدينة أبي تلميت، تقع شمال شرق المدينة على بعد 4 كلم منها، وتمتد على مساحة تقدر ب 5 كلم طولا و3 كلم عرضا، تعتبر جزءا من المدينة وتاريخها، فبعد ما أسس الشيخ سيدي الكبير مدينة أبي تلميت سنة 1243هـ ــ 1827م، استوطنها وحفر بها بئرا, وجعلها مقر إقامته، وذكرها في شعره مرارا، مثل قوله:

 أبا تلميت أبشر بالنجاح *** وبالفوز العظيم وبالرباح 

لأنك سيدُ الآبار هُنَّا *** لحوزك دونها حزب الفلاح 

فلا برحت رباك إليك تُهدي *** جموع الفضل رواد الصلاح

واستمرت عمارة بتلميت منذ حُفرت بالعلم والدين والاستقامة، فكانت قبلة لطلاب العلم، ومأوى للخائفين، وملجأ للضعفاء، والمحتاجين، والملهوفين.

 عرفت المدينة أوج ازدهارها في فترة الشيخ سيدي الكبير الذي جعل منها حاضرة علمية مشعة تخرج منها الكثير من العلماء والفقهاء.

اعتمد الشيخ سيدي وكذا حفيده الشيخ سيدي باب في تنطيم الحضرة نظاما جديدا متميزا، فكانت بذلك مشروعا دينيا واجتماعيا ذا طابع إصلاحي عام، مما جعلها متميزة عن غيرها من التنظيمات الحضروية الصوفية في المنطقة.

ونتيجة لحسن تنظيم هذه الحضرة واتساع انتشارها ونجاح مشروعها الإصلاحي الكبير، كانت كعبة للطامعين والمظلومين، ومهوى أفئدة طلاب العلم والأمن والسلام، ومحط أنظار الراغبين في فض النزاعات وإبرام مواثيق وعهود الصلح.

اتسعت رقعة المدينة، وكثر ساكنوها، ووفد عليها أهل الحرف والمهن، فاكتظت بقاطنيها.

 أجمع رأي كبار القوم، واتفقت كلمتهم على اختيار البعلاتية مدفنا خاصا للمدينة.

وتقول الروايات إن أول من دفن هناك داداه والطالب ابنا المختار بن الهيبه, وكذلك السيدة الفاضلة عزة بنت آبَّوَ فإنها دفنت هناك، ولم يعرف تاريخ وفاتهم بالضبط , فصار الناس بعد ذلك يدفنون موتاهم بالبعلاتية, وكان من أوائل الذين دفنوا أيضا بها القاضي العلامة سيد المختار بن أحمد محمودْ بن محمد مختار الملقب "مُتَّالْ" المولود سنة 1252 هـ الموافق 1838 م، وقد أخذ عن الشيخ سيدي الكبير, الذي تنبَّه باكرا إلى نجابته و سرعة فهمه, و كان صنوا وملازما لابنه الشيخ سيدي محمد, وقد مَارَسَ القاضي مُتَّالْ الإفتاء و القضاء خمسين عاما إلى أن تُوفي سنة 1336هـ الموافق 1917م ودُفن  بالبعلاتية، رحمه الله.

وتذكر المصادر أن المرأة العظيمة الفاضلة فاطمه امباركه ( الناهه ) بنت المختار بن عبد الفتاح بن اشفغ نلل، سليلة الأماجد والكرام، أم الخلفاء أبناء الشيخ سيدي باب هي أول نزيل البعلاتية من أهل البيت، وكان ذلك سنة 1922م, وأثناء دفنها سمعوا صوتا مجهول المصدر يتلو قول الله عز وجل: ( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ).

  فإن ابنة الأفضال والدة العلى *** سليلة أمجاد أسود من الأسد

توارت بترب بعد مسك وعنبر *** فأورثت الدنيا النكال من الفقد

فكم أسدت الإحسان والفضل للورى *** فسادت به فخراً على كل من يسدي

سمت وتسامت فهي محض مكارم *** حوت كرماً حازت به جنة الخلد

سقى الله قبراً حله مثله سناً *** هوامع لطف هاميات على اللحد

كريمة طبع بنت جود عفيفة *** سليلة سادات كرام من المهد

فريدة ذات في المكارم نخبة *** توفت فوافت بالنقاوة والزهد.

ودفن بها أيضا علامة زمانه مجدد السنة الشيخ سيدي باب سنة 1924م.

ثم ابنه محمد سنة 1926م، رحمه الله:

‌يا ‌روضة أينعت بالفضل ثم ذوت *** أفنانها قبل أن يستكمل الثمر

لم يبلغ السن منك الأربعين وقد *** سارت علومك في الأقطار تنتشر

هذي مآثرك الحسنى مخلدة *** والعين إن فقدت لا يفقد الأثر.

ودفن بها الشيخ سيدي المختار ( اباه ) بن الشيخ سيدي سنة 1951م

كما دفن بها أبناء الشيخ سيدي باب والشيخ سيدي المختار وبناتهما وأحفادهما وعيالهما.

ودفن بها أبو مدين بن الشيخ أحمدو بن سليمان سنة 1944م، وغيرهم من الأعيان والأفذاذ. 

وضمت البعلاتية علماء أجلاء، وفضلاء كرماء، وسياسيين وزعماء، وناسا من أجناس شتى.  


واتخذها أهل بتلميت مدفنا رسميا لهم، ويؤتى بالجنائز من بعيد لتدفن هناك، إما تنفيذا لوصية الميت، أو التماسا لبركة الجوار.   

ولا يزال الدفن مستمرا بها ومتواصلا، حَتَّى صَارَت ‌مَقْبرَة ‌كَبِيرَة، مترامية الأطراف، فقام العمدة السابق السيد يوسف بن عبد الفتاح بتشييد سياج محكم يحيط بها من جميع الجهات، حفاظا على حدودها, وحماية لها من دخول الحيوانات. 

إلا أن ما يلاحظ وجوده الآن هو انتشار ظاهرة التسييج داخلها، واحتكار أماكن بعينها، والعبث ببعض الأضرحة، وتشييد  البناء على القبور، ونمو الأعشاب بكثرة حولها مما يؤدي إلى طمس بعضها، وانتشار الزواحف على نطاق واسع في أرجائها.

نتمنى من المسؤولين في المدينة أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه الأمور، ويحفظوا للموتى حقوقهم، ويولونهم الرعاية الكاملة.

                           ************** 

وهذه موعظة  أختم بها هذا المقال: 

«أَيُّهَا النَّاسُ أَطِيعُوا اللَّهَ تُفْلِحُوا، وَادَّرّعُوا بِتَقْوَاهُ تَرْبَحُوا، وَتَلَمَّسُوا سُبُلَ النَّجَاةِ سريعا لِئَلَّا تُوبِقُوا، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تفرّقوا، وَارْفَعُوا مَرْكِبَ الطَّاعَةِ تَفُوزُوا بِخُلُودِ الْجِنِان، وَاتَّقُوا مَعْطَبَ الْإِضَاعَةِ تَحُوزُوا وُرُودَ الْإِحْسَان. وَتَمَسَّكُوا بِحَقَائِقِ الْيَقِينِ تَنْجُوا مِنْ فِتْنَةِ الْبِدْعَة، وَاسْلُكُوا طَرَائِقَ الدِّينِ تَلِجُوا فِي سُنَّةِ الشِّرْعَة، وَمِيلُوا عَنِ التباس المعنى، وقولوا للناس حسنا. وَاشْرَعُوا فِي طُرُقِ خَلَاصِ الْبَلِيَّة، وَأَسْرِعُوا قَبْلَ حُرَقِ اغْتِصَاصِ الْمَنِيَّة، فَكَأَنَّكُمْ بِهَا وَنَزَلَتْكُمْ، وَشَأْنَكُمْ نشبها وَأَذَلَّتْكُمْ، وَأَلْقَتْ عَلَيْكُمْ ذُيُوْلَهَا، وَلَوَتْ إِلَيْكُمْ حُبُولَهَا، وَكَمْ طَرَقَتْ وَلَدًا مَحْبُوبًا لِلْوَالِد، مَطْلُوبًا لِلْأَبَاعِد، قُرَّةً لِلْعُيُون، وَمَسَرَّةً لِلْمَفْتُون، وَنُزْهَةً لِلْقُلُوب، وَفَرْحَةً لِلْمَكْرُوب، وَأُنْسًا لِلْإِخْوَان، وَعُرْسًا لِلزَّمَان، فَاخْتَلَسَتْهُ بِنُزُولِهَا، وَأَخْرَسَتْهُ بِمُهَوِّلِهَا، وَأَسْكَنَتْهُ جَدَثا، وأكسته شعثا، فَأَصْبَحَتْ شَمَائِلُهُ دَفِينَة، وَأَضْحَتْ وَسَائِلُهُ رَهِينَة. تَبْكِيهِ الْمَنَازِل، وَتَحْكِيهِ الْجَنَادِل. فَإِيَّاكُمْ وَالطُّمَأْنِينَة، فَذَالِكُمُ الْغَبِينَة.

أَيْقَظَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ فَسَادِ الْغَفْلَة، وَأَنْهَضَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِزَادِ الرِّحْلَة».

من كان حين تصيب الشمس جبهته *** أو الغبار يخاف الشمس والشعثا

ويألف الظل كي تبقى بشاشته *** فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا

في قعر مقفرةٍ غبراء مظلمةٍ *** يطيل تحت الثرى في جوفها اللبثا.

              وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي