النطفية بين ماض مشرق وحاضر مزر


بعد أن أسس الشيخ سيدي الكبير مدينة بتلميت سنة 1827م واستقر بها، جعلها مقر حضرته، وموطن إقامته، ومنطلق إدارته، فيها كان الحل والعقد، والأمن والأمان، والعلم والإيمان، لا صلح إلا بها، ولا مؤتمر إلا على أرضها، ولا توثيق للعهود والمواثيق إلا بين يدي مؤسسها، الناس في رغد من العيش، واطمئنان بال، وراحة نفس، لا ظلم، ولا تعد، ولا فوضى، الحقوق محفوظة، والأعراض مصانة.

وقد اعتمد الشيخ في تنظيم حضرته ما يمكن أن يسمى جهازا إداريا يجلس هو على قمته ويضم بالإضافة إليه:

-- مجموعة من النقباء والمريدين المخلصين يساعدون الشيخ في الإشراف على تسيير الأعمال, وتوزيع الأدوار, هذا بالإضافة إلى الأفراد والتلاميذ الذين يقومون بالخدمة داخل الحضرة ويشرفون على تنظيمها داخليا.

وقد شهدت هذه الحضرة اتساعا أو على الأقل انتشارا لمبادئها القيمـة بعد تخرج مجموعات كبيرة من العلماء على يدي الشيخ سيدي حيث عمل كل واحد منهم على نشر نهج وسلوكيات الحضرة وربط علاقات معها.

وقد اكتسب الشيخ هذه المكانة بعلمه وحسن خلقه، الشيء الذي تعبر عنه كلمته المشهورة «ماكبرتن الناس الين كبرناه» والتي تعني أن أهل هذا البلد لـم يحترموا هذا الشيخ إلا بعد أن احترمهم وقدرهم وعاملهم معاملة حسنة.

في خضم توافد الناس على المدينة واتساعهم بها، رأى الشيخ سيدي ضرورة توفير موارد مائية لسد الحاجيات اليومية، وإرواء الأراضي لإقامة المشاريع الزراعية بها، وذلك انطلاقا من نظرته الشمولية والرأفة ‌بالناس، والرحمة والشفقة على الخلق، ولضمان قيام هذه الحضرة أيضا في الاستمرار بأداء واجباتها الروحية والاجتماعية.

 يقول الشيخ هارون بن الشيخ سيدي باب رحمه الله: ( وكون الشيخ سيدي في جوانب بتلميت أراضي تحرث ووكل بـكـل جـهـة مـنـهـا قـائمين بمصالحها من تلاميذه، فتراه مرة يرسل إلى جماعة التلاميذ القائمين بالمصالح في بتلميت على الجملة:

وهم: الداه بن داداه, محمد سدين بن أحمد محمود بن محم بن بابُ واكتـَوَشن بن المختار بن ابن عمر بن ميلود, وسيد احمد بن السالم, ومحمد بن لبشير, وحبيب الله, والحسن, وهمَّر, وعُمرُ الكبير - أحد تلاميذ أهل فوت الذين قدموا عليه وهم المسمون اليوم بأفريك لِكوَر...).

وكتب لهم الشيخ سيدي عريضة بتوزيع المهام والأدوار، جاء فيها:

( ... وأن يجعلوا في الحرث الأبيض محمد بن عبد الرحمن وسيد محمد بن الطُّلب والحسن صاحب القرب، ويأمر أن يكون مع الحسن هذا مـدفـعـه لـيـدفع عن الحرث الأبيض مـا يخـشـى ضـرره من السباع وخنازير البر، التي بلغنا أنها تكثر الإتلاف فـيـه.

"وأما الـبـئـر التي تحفر فليكن القائم عليها سيد أحمد بن السالم حتى تحصد المحارث فيرجع إليها محمد سدين، ولا يزال محمد سدين قبل الحصاد يذهب مرة إلى المحارث، ومرة إلى البئر التي تحفر، فينظر فيما صنعه أهل المحارث، وما صنعه أهل البئر، ولا يزال يدور بين المحارث يقف على كل حرث فينظر في حاله, وفيما صنعه أهله القائمون عليه.

وأما مـحـمـد بـن لـبـشـيـر فـيـشـتـرك مع همَّر في هم الخيمة وضيـفانهـا وعيالها وجيرانها وينفرد محمد بالحرث مع الداه، وأما اكتـوشن وحبيب الله فيشتركان في هم الحوش والدار، وأما أهل الدار فإنا نامرهم بالورع والتحرز من الغش وترك الطمع، فإن الورع هو سيد العمل، وإن صلاح الدين الورع وفساده الطمع.

وأما الداه فليجعل نظره من وراء جميع هذه الهموم المذكورة كلها، ومن وراء أهلها المجعولين فـيـهـا كلهم بحسب الإمكان وما يـقـتـضـيـه الزمان، وأمـا عُـمـرُ وجميع أهل محارث شمامه فليذهبوا جميعا لمحارثهم التي في شمامه.

وكان الشيخ سيدي يوصي جميع تلاميذه بحسن الخلق والأدب والنصيحة والورع وبالسمع والطاعة لمن كان مقدما عليهم.

هكذا كان هَمّ الشيخ سيدي وهكذا كانت رؤيته: المصلحة العامة، الاكتفاء الذاتي، التربية الروحية والجسدية، النظام هو سيد الموقف في كل شيء.

تم حفر الآبار في كل مكان، وهيئت بطون الأودية لتكون مجمعا لمياه الأمطار في جميع جنبات المدينة، ومن أشهر هذه الأودية: واد النطفية الذي يوجد شرق المدينة على بعد 5 كلم منها.

فقد أمر الشيخ سيدي الكبير ابنه الشيخ سيدي محمد وابن أخيه الداه بن داداه بالإشراف على الحفر وتهيئة الوادي، مع مجموعة كبيرة من التلاميذ، محافظة منه على توفير الشراب لأهل المدينة، وتأهيل الأرض التلميتية المعطاء واستصلاحها، وجلب البذور الطيبة الحسنة لإعادة الحياة لهذه الأرض المعطاء، وما إن اكتملت الأشغال، حتى أصبحت النطفية شريان حياة للمدينة لا غنى عنها، تمدها بالماء الصالح للشرب، وتروي أراضيها الزراعية. 

يقول الشيخ هارون رحمه الله: ( تصديقا لما تقدم من كون جميع الاجتهاد فيما تقدم من التحصيل إنما هو لنفع خلق الله، جاء في رسالة من رسائل الشيخ سيدي التي يرسل إلى الجماعة القائمة على المصالح في بتلميت وهي: الداه بن داداه وسيد الامين وحمدِ بن ابلول ومحمد سدين واكتوشن والخطاط وسيد الأبيض وأحمد بن انبگ وعبد بن سعيد ومولود وسيد اعل,  يأمر الجميع "بتقوى الله العظيم والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وبالمرحمة والرفق بمن يجاورهم من الأهلين بل وجميع المسلمين ولكل من هنالك من الأقارب والأحباب من جميع أهل محلة بتلميت النازلين المجتمعين معهم المجاورين لهم أنصباء من الزرع على قدر الإمكان والاستطاعة, وإن لم يمكن السهم وأمكن القرض فليفعل"، انتهى محل الحاجة من الرسالة في الحين. وقد استمر ما أمر به في هذه الرسالة من وقت كتابتها...) اهـ.

 كان الشيخ سيدي يدعو الله دائما في الشعر للنطفية ويستسقي لها، قال رحمه الله:

يا ربنا يا خالق البريه *** يا رازق الخلق بلا تقيه

ارزق إلهي هذه النطفيه *** لما غدت معدتها خليه

 برية من مزنة سخيه *** عين غديقة بدت بحريه

ثم تشاءمت وهي بهيه *** تفعمها إفعامة زكيه

 تشمل كل بقعة صديَّه *** للمسلمين حيث كانت هيَّه

دانيةٍ في القطر أو قصيَّه *** شرقية في الأرض أو غربيَّه

ويقول رحمه الله:

يَا رَبِّ نُطْفِيَّةُ الْأَصْحَابِ قَدْ نُقِلَا *** مَا كَانَ فِي بَطْنِهَا فَاسْتَدْعَتِ السَّبَلَا

فَأَنزِلَنَّ عَلَيْهَا صَيِّبًا غَدَقًا *** يَعُمُّهَا وَيَعُمُّ السَّهْلَ وَالْجَبَلَا

فَيَرْتَوِي كُلُّ صَادٍ مِن سِقَايَتِهِ *** رَيًّا حَمِيدًا يُزِيلُ الضُّرَّ وَالْغُلَلَا

وَيَغْتَنِي كُلُّ ذِي بِيرٍ بِرَاكِدِهِ *** فِي الْغُدْرِ عَن مَائِهِ كَالسَّالِكِ السّبُلَا

غَيْثًا هَنِيئًا مَرِيئًا مُمْرِعًا طَبَقًا *** يَعُلُّ مِن بَعْدِ مَا قَدْ يُحْكِمُ النَّهَلَا

مُبَارَكًا رَحْمَةً لِلهِ وَاسِعَةً *** لَا نَخْتَشِي مَعَهُ أَزْمًا وَلَا زَلَلَا

وَلَا فَسَادًا بِدِينٍ أَوْ بِخُلَّتِهِ *** وَلَا تَطَاوُلَ مَن قَدْ جَارَ أوْ عَدَلَا

وَلَا مُصَارَمَةً بَيْنَ الْقَبِيلِ وَلَا *** خَفِيَّ غِلٍّ يُرَبِّي الْغِشَّ وَالْخَلَلَا

وَلَا شَمَاتَةَ أَعْدَاءٍ وَلَا فَزَعًا *** يَوْمَ اللِّقَاءِ وَلَا خِزْيًا وَلَا خَجَلَا

بَل لَا نَزَالُ عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَنَا *** إِلَهُنَا مِن تَعَاطِينَا الْعُلَا جُمَلَا

أَعِزَّةً بِالْعَزِيزِ الْفَرْدِ مُنسَدِلًا *** حِفْظُ الْحَفِيظِ عَلَيْنَا مِن جَمِيعِ بَلَا

يَا رَبِّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا صَمَدٌ *** مَنْ أَمَّهُ آمِلًا يَفُزْ بِمَا أَمَلَا

فَرِّجْ جَمِيعَ كُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَجُدْ *** عَلَيْهِمُ بِجَدًى يُبْقِي الْبِقَاعَ مِلَا

تُدَافِعُ السَّيْلَ عَنْهَا الْبَعْضُ يَدْفَعُهُ *** لِلْبَعْضِ وَالْبَعْضُ لَا يَرْضَى بِمَا فَعَلَا

ثُمَّ تُرَى الْأَرْضُ بَعْدَ الْهَزِّ مُنبِتَةً *** مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ يَقْصُرُ الْمُقَلَا

فَتَكْتَسِي مِن سَدَاهُ كُلُّ عَارِيَةٍ *** مَلَابِسًا جُدَدًا مَوْشِيَّةً حُلَلَا

وَيُثْمِرُ النَّجْمُ وَالْأَشْجَارُ قَاطِبَةً *** وَتُبْرِزُ الْأَرْضُ مِن ذُخْرٍ بِهَا جُعِلَا

وَيَبْسُطُ اللهُ فِي الْأَقْطَارِ نِعْمَتَهُ *** حَتَّى يَكُونَ كَأَرْبَابِ السَّخَا الْبُخَلَا

وَيُطْعَمُ الْمَطْعَمَ الْمَرْغُوبَ رَاغِبُهُ *** وَيُمْنَحُ السِّمَنَ الْمَحْبُوبَ مَا هَزُلَا

النَّاسَ طُرًّا وَمَا قَدْ كَانَ مِنْ غَنَمٍ *** وَالْخَيْلَ وَالْحُمْرَ وَالْبَيْقُورَ وَالْإبِلَا

فَيُصْبِحُ الْخَلْقُ فِي خَفْضٍ وَعَافِيَةٍ *** يُكْفَى بِهَا السُّوءَ وَالْأَمْرَاضَ وَالْعِلَلَا

يَا حَقُّ يَا رَبِّ يَا اللهُ يَا أَحَدٌ *** لَا جَمْعَ يَغْنَى وَلَا آحَادَ عَنْهُ عَلَا

أغِثْ عِبَادَكَ يَا رَبَّ الْعِبَادِ فَهُمْ *** فِي ضِيقِ جَهْدٍ مِنَ الْقَحْطِ الذِي شَمَلَا

فَاغْفرْ ذُنُوبَهمُ وَاسْترْ عُيُوبَهمُ *** وَاسْرُرْ قُلُوبَهُمُ بِالْغَيْثِ مُنْهَمِلَا

غَيْثٍ بِهِ تُخْصِبُ الْآرَاضُ مِن جُرُزٍ *** وَمِن سِوَاهَا وَمِن مَعْمُورَةٍ وَفَلَا

أنتَ الْكَرِيمُ فَلَا مَجْدٌ وَلَا كَرَمٌ *** عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا فِيكَ قَدْ كَمُلَا

أنتَ الْإلَهُ الذِي لَا شَيْءَ يُشْبِهُهُ *** وَلَا شَرِيكَ لَهُ قَطْعًا وَلَا مَثَلَا

فَامْنُنْ عَلَيْنَا وَإن كُنَّا الْجُفَاةَ بِمَا *** بِهِ مَنَنتَ عَلَى عِبْدَانِكَ الْفُضَلَا

أجِبْ دُعَانَا وَحَقِّقْ يَا كَرِيمُ لَنَا *** فِي كُلِّ مَا نَرْتَجِي مِن فَضْلِكَ الْاَمَلَا

أَمَرْتَنَا بِالدُّعَا وَعَدتَّنَا عِدَةً *** بِالِاسْتِجَابَةِ فَلْيَبْشِرْ مَنِ امْتَثَلَا

إِلَيْكَ مِنَّا أكُفُّ الْفَقْرِ قَدْ بُسِطَتْ *** وَالْبَسْطُ لِلْبَاسِطِينَ حَسْبُ مَن سَأَلَا

لَأَنتَ أَعْظَمُ مِفْضَالٍ وَأَكْرَمُ مَن *** مُدَّتْ إِلَيْهِ أَكُفّ السَّائِلِينَ إِلَى

وَأَنتَ أَرْأَفُ بِالْعِبْدَانِ مَا ائْتَمَرُوا *** مِنْ أُمِّ طِفْلٍ بِهِ فَرْدًا لَهَا نُجِلَا

يَا رَبِّ هَذِي الْمَوَاشِي مَسَّهَا ضَرَرٌ.... وَمَسَّ أرْبَابَهَا إذْ لَمْ تَجِدْ أُكُلَا

فَأصْبَحَ الْكُلُّ يَدْعُو ضَارِعًا دَهِشًا *** بِحَالٍ اوْ بِمَقَالٍ مَا بِهِ نَزَلَا

فَارْحَمْ ضَرَاعَتَهُمْ وَاقْبَلْ شَفَاعَتَهُمْ *** وَاكْشِفْ مَجَاعَتَهُم بِالْخِصْبِ مُحْتَفِلَا

وَالْيُمْنِ مُنفَجِرًا وَالْأْمْنِ مُنتَثِرًا *** وَالْخَيْرِ مُنتَشِرًا وَالشَّرِّ مُنْخَزِلَا

سُبْحَانَكَ اللهُ تُعْطِي مَا تَشَاءُ لِمَن *** تَشَا وَتَمْنَعُ لَا شُحًّا وَلَا بُخُلَا

بَلْ قِسْمَةٌ سَبَقَتْ بِالْعَدْلِ فِي أَزَلٍ *** وَالسَّابِقُ الْأَزَلِي لَا يَقْبَلُ الْعِلَلَا

فَالْأمْرُ أمْرُكَ لَا مُسْتَقْدِمًا أجَلًا *** عَمَّا تُرِيدُ وَلَا مُسْتَعْجِلًا أَجَلَا

حَقًّا تُجِيبُ الدُّعَا لَكِنَّ جَيْبَتَهُ *** فِيمَا تَشَا لَا يَشَا مَن بِالدُّعَا اشْتَغَلَا

فَلْطُفْ بِعِبْدَانِكَ الْمَحْتُومِ فَقْرُهُمُ *** إِلَيْكَ وَاهْدِ وَتُبْ وَأصْلِحِ الْعَمَلَا

أوْزِعْهُمُ شُكْرَ مَا أسْدَيْتَ مِن نِعَمٍ *** يَضِيقُ عَنْ حَصْرِهَا إحْصَاءُ مَنْ عَقَلَا

وَألْهِمَنَّهُمُ حُبَّ الْعِبَادَةِ كَيْ *** يَصِيرَ كُلٌّ بِذِكْرِ اللهِ مُشْتَغِلَا

وَعُدْ إلَهِي عَلَى حِزْبِ الْإرَادَةِ مِن *** ذِي عُلْقَةٍ صَدَقَتْ بِاللهِ قَدْ شُغِلَا

وَذِي احْتِرَامٍ وَمَعْنِيٍّ بِخِدْمَتِهِ *** وَذِي انتِسَابٍ عَلَى مَا فِيهِ قَدْ قُبِلَا

بِالْفَتْحِ فِي الْعِلْمِ وَالسَّعْيِ الذِي مُنِحَتْ *** بِهِ طَوَائِفُ أرْبَابِ الْوَلَاءِ وَلَا

نَوِّرْ بَصَائِرَهُمْ وَزِنْ سَرَائِرَهمْ *** وَامْلَأْ ضَمَائِرَهُم بِالنُّورِ مُشْتَعِلَا

وَاجْعَلْهُمُ فِي الْوَرَى أئِمَّةً وَأَفِضْ *** عَلَى جَمِيعِهِمُ آلَاءَكَ الْجُلَلَا

بِجَاهِ خَيْرِ رَسُولٍ جَاءَ مُنبَعِثًا *** لِلْخَيْرِ مِنْ أُمَّةٍ أَرْعَيْتَهَا الرُّسُلَا

عَلَيْهِ صَلِّ وَسَلِّمْ دَائِمًا وَعَلَى *** آلٍ وَصَحْبٍ وَتَالٍ تَمَّ وَاكْتَمَلَا.

لكن الأرض التي كانت تنعم بخيراتها على أبنائها، وتمدهم بالماء والغذاء، ها هي اليوم تستغيث ‌ولا ‌مغيث، تئنّ تحت وطأة أكوام القمامات وجحافل النفايات والأوساخ، تستجير ولا مجير ... تصرخ ... تنادي: " أين الوفاء ... أين رد الجميل ... ولكنها صرخات مخنوقة، في أودية سحيقة.

ولسان حالها يقول:

(( ‌يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ )).

رفقاً بمنزلك الذي تحتلُّه *** يا من يخرِّب بيته بيديهِ

عندما زرتها وتجولت في أرجائها شاهدت ما يعجز اللسان عن وصفه، رأيت منظرا تشمئز منه النفوس، ويعافه الطبع، ويندى له الجبين، تناثر الأوساخ في كل مكان، وانكباب للكلاب على الجيف، وتطاير القمامات في كل جهة

 

فخرجت منها وفي القلب لوعة وأسى فقلت متمثلا :

فعلى معالمها تَحِيَّة مغرم *** فى قلبه لهوى الديار شجون

ولكن أملنا أن نداءها سيجد آذانا صاغية وقلوبا واعية وسواعد وفية تخلصها من معاناتها.

ألقيت نظرة الوداع على ذلك الوادي مستحضرا قول القائل ( ما ضاع حق وراءه طالب ) 

فقلت مستنهضا همة الوادي ومتمثلا:

فاسلم ودم وتملّ العيش في دعة *** ففي بقائك ما يسلي عن السّلف 

فأنت للمجد روح، والورى جسد *** وأنت درّ فلا نأسى على الصّدف.

‌ستبقى النطفية صامدة صمود الجبال أمام عواصف طمس الهوية، وموجات التهميش والعبث.

لا تقلقي فسيتقدم من يشد أزرك، وينافح عن ماضيك السامي، ويزيل من طريقك ما أثارته تلك الأعاصير، حتى يتكشف الحق، ويتضح الخير، وتطمئن الأفئدة وتذهب شكوكها.

                    وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي