الشيخ سيدي الكبير وحيازة السبق في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان

من الأمور التي حرص الإسلام عليها ودعا إليها: العمل على بناء مجتمعٍ قويٍّ قادرٍ على مواجهة التحدِّيات والأزمات المختلفة، مجتمع حضاري راقٍ، يرحم القويُّ فيه الضعيفَ، ويعطف الغنيُّ على الفقير، ويُعطي القادرُ ذا الحاجة، كما حرص على بناءِ مجتمعٍ أخلاقيٍّ متقاربٍ ومتحابٍّ ومتعاونٍ على الخير وفعل المعروف؛ ومن ثَمَّ جَاءَ بمنهجٍ رائع في بناء المجتمع البشريِّ كُلِّه، وجَعل كلَّ فردٍ فيه متعاونًا مع غيره على الخير العام، مُغِيثًا له حال الحاجة والاضطرار.

إنَّ قيمة التكافل بين الناس، وخُلُقَ إغاثة الملهوف من الأمور التي لا يقوم المجتمع المسلم إلَّا بها، إنَّها قيمٌ إنسانيَّة اجتماعيَّة راقية، وقد سبق الإسلام في تطبيقها على أرض الواقع سبقًا بعيدًا، فكانت النماذج الرائعة في الصدر الأول من الإسلام خير مُعَبِّرٍ عن هذا الخُلُق الكريم.

إنَّ الإسلام قد أولى الطبقات الضعيفة في المجتمع اهتمامًا خاصًّا، فشرع لهم من الأحكام والوسائل ما يكفل لهم الحياة السعيدة الآمنة، والكفاية التامَّة لكلِّ محتاج، وتشمل هذه الكفاية المطعم والملبس والمسكن، وسائر ما لا بدَّ له منه على ما يليق بحاله بغير إسرافٍ ولا إقتارٍ لنفس الشخص، ولمن هو في نفقته.

كما أنَّ في عدم التكافل والإغاثة والنصرة خذلانًا للمسلم، وفيه ما فيه من الوعيد، ومن ثَمَّ كان تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدًا لمن تقاعس عن نصرة أخيه المسلم؛ فعن جابر بن عبد الله وأبي طلحة الأنصاري رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ . رواه أبو داوود وأحمد والطبراني.

إنَّ منهجًا هذه مبادِئُه في أمر التكافل والإغاثة كفيل إن طُبِّقَ أن يُحقِّق المساواة والعدل والحبَّ والإخاء بين أفراد المجتمع الإنساني كلِّه.

هكذا عمل الشيخ سيدي الكبير وعليه سار فكان بذلك أول من أرسى وطبق أحكام ومبادئ حقوق الإنسان في هذه البلاد ودافع عنها وناضل من أجل تحقيقها , بل إن العالم الغربي وقتها كان يغط في سبات الهمجية والجهل والعنصرية والإقطاعية وممارسة الرق هواية وتجارة, يحكمه قانون الغاب, عالم لا رحمة فيه ولا رأفة ولا إنسانية, وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1948م يوصف بأنه أول وثيقة قانونية تحدد حقوق الإنسان الأساسية التي يجب حمايتها عالميًا.

فإن الشيخ سيدي الكبير كان أول من دعا في هذه البلاد إلى حماية هذه الحقوق ودافع عنها, فهو بِسَبق حَائِز تَفضِيلا, كان جل وقته لمساعدة المحتاجين، ولتأليف القلوب بين المتخاصمين المتنافرين، ولم يناصر جهة ضد أخرى، بل كان همه هم وحدة صف المسلمين ، وحبه حب الخير لهم جميعا ، لم يكن أنانيا ، بل کان يؤثر الخير للناس على نفسه, ناهض الظلم وحارب إذلال الضعفاء ودافع عن كرامة الإنسان وحقه في الحياة بحرية وأمان, وطبق تلك القواعد والرؤى على أرض الواقع في الفترة ما بين سنة 1810م إلى سنة 1868م فأسس نظاما اجتماعيا يحكمه الوازع الديني وتسوده المعرفة والعدالة والأمن والتكافل.

حث على مكارم الأخلاق والرأفة بعباد الله, وسعى في نصرة المظلوم , وسارع في نجدة المستضعف، وإجارة المستجير، وإغاثة الملهوف, ودعا إلى إرساء العدل والمساواة والحرية وفق ضوابط الشريعة الإسلامية.

اعتمد الشيخ سيدي في تنظيم حضرته نظاما جديدا متميزا, فكانت بذلك مشروعا دينيا واجتماعيا ذا طابع إصلاحي عام, مما جعلها متميزة عن غيرها من التنظيمـات الحضروية الصوفية في المنطقة. 

فقد كانت هذه الحضرة تقوم على أساس جلب المصلحة ودرء المفسدة، والوئام، والالتحام، والمحافظة على وحدة أفرادها وجماعاتها, وإشاعة الأمن والاستقرار, والتحضر بحفر الأبار وبناء المساجد والدور وتنصيب القضاة، والذب عن كل من دخل حريم الحضرة بغض النظر عن تصنيفه العرقي.

 كما كانت هذه الحضرة مرکز إشعاع فكري وثقافي وديني شمل البلاد كلها وتجاوزها إلى الأقاليم المجاورة , فأرسل الشيخ سيدي مریديه إلى غامبيا والسنغال وإقليم كازاماس لنشر الإسلام حيث أسسوا زوايا في تلك الأقاليم.

ويعتبر الشیخ سیدي نفسه مسؤولا عن كل من التحق بهذه الحضرة ويرتب له حقوقا معلومة يتم توفيرها ويتضح ذلك من قوله في رسالة إلى عشيرته أولاد انتشایت :(... ومما ينبغي أن تتنبه له وتنبه عليه غيرك أن هذه العلائق التي علق الله بنا من المسلمين لم يحملهم على التعلق بنا إلا طلب النفع والاستدفاء بدفئنا والاستظلال بظلنا و استجلاب سائر المنافع واستدفاع جميع المضار بحرمة حريمنا وجاهنا لحسن ظنهم بنا، فلا أقل من أن نمسك عنهم شرنا، إذا لم ندفع عنهم شر غيرنا، فإن لهم من الحقوق علينا، ما نعجز عن القيام بعشر العشر منه ...).

ونتيجة لحسن تنظيم هذه الحضرة واتساع انتشارها ونجاح مشروعها الإصلاحي الكبير ، كانت كعبة للطامعين والمظلومين.

يقول عنه صاحب الوسيط : ( ...وكانت العرب في أرض شنقيط، تجعله حرما آمنا، فيجتمع عنده أحدهم، بمن قتل أباه أو أخاه، فيجلسهما على مائدة واحدة. وإذا بلغ الجاني نواحي البلد الذي يقيم به، أمن على نفسه. ولم يمض عليه يوم، إلا وعنده آلاف من الناس، يطعمهم ويكسوهم، ويقضي جميع مآربهم، حتى لقي الله، ولا يسأله أحد حاجة إلا أعطاه إياها، بالغة ما بلغت...).

ويقول محمدو بن محمدي العلوي رحمه الله في مدح الشيخ واصفا حال حضرته:

عمَّ الأنام بهديه وأمدَّهمْ ... كلاًّ بفيض من نداه عميم
وردت حياض نواله وعلومه ... هِيمُ الورى فشفى غليلَ الهيم
في كفه رزق الأنام فكلهم ... ساعٍ لموضع رزقه المقسوم
فترى البيوت أمامه مملوءة ... ما بين ناوي رِحلَةٍ ومقيم
كُلاً بنسبة ما يحاول خصه ... من قوت أفئدةٍ وقوتِ جُسوم
لم يكفه الميْرُ الكثير لدى القرى ... كلاَّ ورِسْلُ الكوم نحر الكوم
فترى بساحته الدماَء وفرثَها ... ولَقى العظام جديدة ورميم
وترى القدور رواسياً وترى الجفا ... ن لوامعاً بحواضرِ المطعوم
من قاسه بالأكرمين فإنه ... في الشأو قاس مجليا بلطيم
بل قاس ملتطم البحار بنطفةٍ ... والروضَ غضاً ناضراً بهشيم.


ويقول الهادي بن محمد العلوي :

مَأوَى الورى قطبُ الرحى مَنْ جاَءهُ ... يَجِدَ الرَّحى أبداً تحكّ ثِفَالَهَا
ويجدْ كريمة شولهِ معقولةً ... بالباب قد خَضَبَ النَّجيعُ عِقالَها
تخشى المساء أو الصباح سوامهُ ... فكلاهما انتظرت بهِ آجالهَا
فالناسُ ينتجعونَ سَيْبَ يمينهِ ... لا سيفَها وسنانَها وبلالَها
كم ليلة أو بلدةٍ أحياهما ... بالذكرِ والحَفْرِ المفيض زُلالَها
لمَّا رأى سُبُل الرِّفاقِ مَضَلّةً ... عَمَرَ البلادَ وهادَها ورِمالهَا
منَع البلادَ مِنْ أن تُصابَ بَسَيئٍ ... حَتى أجارَ من الرُّعاةِ سَيالَها
وإذا العُدَاةُ مَعَ العُدَاةِ تَقابَلَتْ ... وضَعَ العُداةُ عن العُداةِ نِبالَها
وحَمى جميعَ العالمينَ حِمايةٍ ... لَمْ تحمها أسد الشَّرَى أشبالَها
 .
 

وكان الشيخ رجـل إصلاح حيث كانت أعماله الإصلاحية بين القبائل المتناحرة أروع مثال على مجهوده الإصلاحي الكبير، فيبذل ماله وجاهـه وجهده في الإصلاح بين الفرقاء بغض النظر عن أصولهم وانتماءاتهم، ومن أمثلة هذا النوع من الأعمال: الصلح الذي أبرمه لإنهاء القضية التابيتية ، والـذي كلفه أموالا باهظة، وجهدا عضليا كبيرا تمثل في سفره لمدة سنة كاملة في هذه القضية، هذا بالإضافة إلى قيامه بوساطات بين الأمراء حقنا للدماء وصونا للأعراض وسعيا منه إلى نشر الأمن والأمان, ومن تلك الوساطات ما قام به من مساعي الصلح بين أمير الترارزة محمد لحبيب وأمير آدرار أحمد بن عيده لإطفاء نار الفتنة وإشاعة الأمن والسلام, فقد ذكر محمد مولود بن انتهاه في كتابه الذي تناول فيه علاقة إمارة آدرار بإمارة الترارزة هذه الوساطة مبينا الأسباب والظروف, نقتطف منه ما يلي : ( ... وهذه الصولة شهيرة عند الناس, وكان السبب في ذلك أن أحمد بن عيده لما وقع الفشل في قومه وعلم من نفسه العجز عن حرب الترارزة ولم تظهر له فائدة فيها أرسل مع من يثق به في السر للسالك بن أحمد ناه بأن يكاتب الشيخ سيدي في العافية بينه مع محمد لحبيب , ويكون الشيخ هو الواسطة في ذلك وهو السائل لها من نفسه دون ذكر السالك وأحمد بن عيده لأن الشيخ جل أهل آدرار تلامذته وأهل هديته فلا تهمة للمذكورين في كونه واسطة في العافية لأهل آدرار , وقد كتب السالك للشيخ براوة لم ير مثلها ونصها :( وبعد فإلى ثبت الراسخين الإثباتْ, مجدد الدين عالم الرحلاتْ, مقيم ما تضعضع من سور الدين برواس الدعماتْ, ومأوى الركاب الطارفين العفات ... وهي طويلة ومحل الحاجة منها : وبعد فإن أحمد بن عيده مريدكم زعما وخديمكم على أنفه رغما يلتمس الذب عن بابه والالتفات إلى جنابه وطرد من يحوم حول رحابه ... ) ولولا خوف السئامة لسردتها لكن المطلوب منها ما ذكرته . فلم يعلم محمد لحبيب بشيء إلا والشيخ سيدي الكبير نازلا عنده صربة , فوافقه محمد لحبيب على العافية ).

 كما  بعث برسائل إصلاحية بين تجكانت واركيبات  في تندوف، وبين تجكانت وکنته واشراتیت من ادوعيش في ارکیبه......والأمثلة كثيرة.

 وعمل على التخفيف من الظلم الاجتماعي والحيف الذي كانت بعض المجموعات تتعرض له مستعملا في ذلك سلاح الوعظ والتهديد بالخوارق ....

وامتد عطاء الشيخ سيدي ليشمل إعمار البلاد دون تمييز فلم يكن يبلغه أن الطريق منقطع في جهة معينة لعدم عمارتها إلا حفر بها الآبار وبعث إليها المؤن الطائلة، كما كانت حضرته مكانا لقرى الضيف وإعانة المحتاج وإغاثة الملهوف وملجإ الخائف

ويكفي هذا الشيخ مكانة اجتماعية أن السلطات القائمة وقتها، والقبـائل التابعة لها كانت -في أغلب الأحيـان- تتجنب الإساءة إلى من دخل المجال الجغرافي لحضرته.

تدخل الشيخ سيدي الكبير رحمه الله وافتدى المجموعات الغارمة بماله وفض النزاعات حتى طالت فداءاته حوالي 30 مجموعة، لا تزال وثائق فداءاتها موجودة حتى الآن. 

وبعث برسائل إلى بعض المجموعات يطالبهم فيها بفداء غرماء استنجدوا به.. .أو بإخلاء سبيل مَن كان تحت القهر والإذلال من الرجال والنساء باذلا في ذلك ما يمكن بذله من المال والجاه والجهد   كما سار أبناؤه من بعده على نفس الخطى , وسلكوا سبيل المنهج , فلم يتأخروا عن إنقاذ أي مستضعف ولم يتوانوا عن إغاثة أي ملهوف ومظلوم , وسترى نماذج من الفداءات التي قام بها الشيخ سيدي الكبير والشيخ سيدي باب ..

.....يتواصل...

وكتب : إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي