الشيخ أحمد بن الشيخ سيدي باب


أَلا يَا مُنْتَهى الْجُود *** وَيَا ذَا الْمجد وَالْفَخْر

وَيَا ابْن السَّادة الغر *** وَيَا ابْن الأنجم الزهر

وَيَا أبهى من الشَّمْس *** ضِيَاء وَمن الْبَدْر

همام طَاهِر الذيل *** سليل السَّادة الغر

كريم الأَصْل والخيم *** رحيب الباع والصدر

جواد غير مَدْفُوع *** عَن الإفضال وَالْبر

وَمَا زَالَ إِلَى كل *** لَهُ عارفة تسري

لقد عَمت أياديه *** جَمِيع البدو والحضر

 هو الشيخ أحمد بن الشيخ سيدي باب بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي بن المختار بن الهيبه الانتشائي الأبییری, وأمه فاطمه امباركه المعروفة عند العام والخاص بالناهه بنت المختار بن عبد الفتاح بن عبد الله بن ألفغ نلل بن عبد الله بن أحمد بن الفالل بن امرابط مکه .
 ولد سنة 1306هـ بناحية اذراع الأبيظ , شمال تندوجه بالجنوب الشرقي من تامرزگیت " ميمونة السعدى"  وعلی بعد ثمانين كيلو مترا شمال أبي تلميت.

‌نَشَأ ‌في ‌حِجْر العلم والفضل والحسب، وبَسَق في رَوْض المجد والنبل والمعروف والأدب, ‌وتربى في كنف الرعاية والعناية, وشب في رفاهية، ونعمة وافية، ورئاسة وكمال، ورفعة وجمال.

نهل من معين والده وعبَّ من حياض علمه, وتأثر بمنهجه, وتشبع بآدابه, وتفيأ ظلالَ مجالسه وتوجيهاته. 
من السمات التي تميزت بها تلك البئة منذ عودة الشيخ سيدي من عند أزواد  الاهتمام بتربية الناشئة تربية صالحة, وتعليمهم العلوم الشرعية.

 حفظ الشيخ أحمد القرآن الكريم وهو دون العاشرة من عمره على يد الحافظ المتقن محمد بن معاوية التندغي, ولما توفي أتقن تجویده على ابنه الحافظ المجازي أحمد محمود.
ثم قرأ السيرة النبوية والتوحيد والفقه وعلوم العربية على العالم المحقق أحمدَّ بن آبوَّ، ثم على العلامة سیدي محمد بن الداه بن داداه ، وكان والده من وراء ذلك يتعهده کسائر إخوته في كل ما يقرأون ويدرسون.
 

ولما شب عن الطوق جلت صِفَات محاسنه اللائقة, وحلت فِي الأفواه موارد سجاياه الرائقة, واشتمل على الْخلال الرضية, وَالْخَلَائِق المرضية, والديانة الظَّاهِرَة, والمروءة الوافرة.

عرف بالتيقظ فِي أُمُوره وأحواله, والصدق فِي أَقْوَاله, والتسديد فِي أَفعاله, مقتفيا نهج والده, سالكا سبيله  الَّذِي وضحت بِهِ الدّلَالَة, وَحين عرف والده ذَلِك من أمره, وَدلّ وَصفه على علو قدره, جعله مستودع سره, ومحل مشورته, وخصه بأنعم لم يشاركه فيها سواه, وعظمه وبجله، ونوه بقدره، وقصر المفاوضة في المهمات عليه، وقلده أمر أرض شمامة.

مازال يسعى لأنمى كل مرتبة *** سواه قد رامها قدمًا فلم ينل

كان كثير التلاوة للقرآن الكريم، لا يزال المصحف بين يديه، سواء كان متصرّفا أو متعطّلا، فلا يقصّر عن تلاوته في كلّ يوم. وكان كثير الصلاة طويل السجود، لا يترك قيام الليل في حال من الأحوال، فيقطع أكثر ليله مصليّا.من خط الشيخ أحمد بن الشيخ سيدي باب من خط الشيخ أحمد بن الشيخ سيدي 

 وكان ‌غاية ‌في ‌الكرم ورقّة القلب، من محَاسِن الدَّهْر, لَهُ الْيَد الطولى في الجود والبذل والندى, كثير الإيثار, محباً لأهل الْخَيْر, متصفاً بالإنصاف, رجاعاً إِلَى الْحق, مفضالاً, جواداً, سيداً, قوي النَّفس, مواظباً على أَفعَال الْخَيْر. 

 قال له والده الشيخ سيدي باب ناصحا له وموجها :
أحمد ما يصطاد يا أحمـدُ *** علم وتقوى الله والســـؤددُ
فاقدها فأين ما ناله *** ومن ينلها أين ما يــــــفقد
وإرثها أحسن ما يقتنى *** ما الخيل والأنعام والعسجد
ولذة يرفع إدمانها *** لا الكأس والأوتار والخـــــــردُ
يَسعد في الدنيا بها أهلها *** وهم غدا من أجلها أسعد
يهدیكم الله سبيل الألی *** بفضله من كل قرن هــــدوا
أبوابه للحاج مفتوحة *** وخيره الواسع لا ينـــــــفدُ

فكانت هذه الدعوة الصالحة والنصيحة الصادقة له شبه تربية من الشيخ لمريده.

كان ذكيًا, نبيلا, عاقلا، نزيها, طاهر الشيم، حليته الوقار، ومئزره العفة والفخار، عالى الهمة, مجتهدا في االبر وتأثيل المحامد، مبتعدا عن السفاسف وكل ما يشين، له ولوع زائد بعلوم الأدب وكل ما يؤدى إلى مكارم الشيم، ولم يزل حميد السيرة, محمود السريرة، حتى امتد ذكره, وطار في الآفاق صيته، وأقر الخاص والعام بتفوقه وفضله.

أولست طود الحلم والعفو الذي *** لو زال هذا الدهر ليس يزول

وإذا دعت همم العلا أبناءها *** فلأنت جد جدودها وسليل

وإذا الطريق طريق كل مزية *** ضلت فأنت إلى الطريق دليل

ولما رأی منه والده هذه النزاهة والكفاءة الكاملتين طلب منه بحضرة أخویه الشيخ محمد والشيخ عبد الله رحمهم الله جميعا أن يتولى أمر إيالة قبيلة أولاد أبييري فأجابه قائلا: "هذا أمر منكم أم رأي؟" فرد عليه والده  بقوله: "ما هو الفرق بينهما ؟" فأجابه: "إن كان أمرا فلا جواب عليه إلا نعم، وإن كان رأيا وأذنتم لی في الجواب أجبتكم ، فأذن له في الجواب، فطلب منه المسامحة في تلك المسألة, فقبل منه العذر، وأوصاه ببعض عياله, ودعا لهم جميعا بخير, وأمرهم بالتسديد وتقوى الله تعالى.
ولما توفي أخوه الشيخ محمد رحمهم الله سنة 1344هـ الموافق 1926م, بايعته قبيلة أولاد أبيـيرى بالخلافة بيعة شرعية، كما بايعته العامة والخاصة.

فدبر الأمور أحسن تدبير،  وسيرها تسييرا محكما، وسعى في مصالح العباد والبلاد, وكان من المسارعين ‌إلى إغاثة ‌الملهوف باصطناع المعروف.

لقد ‌كان ‌مأوىً للغريب وملجأً *** لذي عثرة حتى تراه يُقالها

وينفق في ذات الإله فما درت *** بما أنفقت يمناه يوما شمالها

عزوبٌ عن الدنيا عكوف على التقى *** أَلوفُ فعالٍ لا يبيد فعالها
ولعب دورا كبيرا في جمع شمل بيت أهله وقبيلتهم, مكرسا لذلك جهوده وموليه كل عنايته.
وقد ارتحل مرات داخل البلاد, من المبروك، إلى الميمون وتكور, ولما حفر المزمزم استوطنه أكثر.
كما كان يرتحل إلى انتجاع آوگار وإلى شمال آفطوط حسب الضرورة.
ولما استوطن هذه الناحية من الأراضي التي كانت مواتا أحياها، فألف الله به قلوبا كانت متنافرة، وهدى به أفئدة هواء, فانحاز إليه خلق كثير, واستظل بظله الضعفاء والفقراء ومن انقطعت بهم السبل.
وكان حرمه آمنا مهابا, أنقذ الكثير من المستضعفين من الموت المحقق, والظلم الشديد, كما كان مقره مأوى للخائف واللهفان والجائع والظمآن.

وكـان إذا أجدبت الأرض وارتحل عنها أهلها, أشار عليه من معه من الجيران والرعاة بالرحيل بحثا عن المرعى والكلأ , فكان يقول لهم: "أما أنا فمسؤول عن هذه البلاد شرعا لأن أبناء السبيل القادمين من آمشتيل وآوگار وأگان وآدرار والساحل قدبلغهم خبروجودي فيها, فيقصدونها بدون زاد ولا ماء اتكالا منهم على الله تعالى ثم على أننا نحن هنا سنكفيهم مؤونة ذلك.
فمن الواجب علي أن لا أخلي لهم هذه الأرض ولا أخيب رجاءهم حتى لا أكون آثما بذلك.

وكانت له ثروة حيوانية كبيرة, وكان يقسمها و يذبح منها ما شاء وينحرمنها ما طاب له كذلك, ويبيع منها ما أراد لتلبية جميع حوائجه ومؤنه.

وتحريا منه لكسب الحلال الطيب كان لا يشرب إلا لبن دابة يعلم أصولها, ويقول إن الإنسان يناجي ربه فینبغي أن يكون ملبسه ومأكله ومشربه حلالا ليكون دعاؤه مظنة الإجابة.

متمثلا في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ:

"أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا. وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بما أمر به المرسلين. فقال: {يا أيها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بما تعملون عليم}. وقال: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ. أَشْعَثَ أَغْبَرَ. يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ. يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، ‌وَمَشْرَبُهُ ‌حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغذي بالحرام. فأنى يستجاب لذلك؟ ".

 وكان ينهی عن إبدال مواشيه التي يعلم أصولها بغيرها مما لا يعلم أصوله لما ذكرنا.
وقلما تراه إلا مستقبل القبلة يتلو كتاب الله تعالى, أو يقرأ كتابا, أو يدبر أمر عياله وضيوفه وجيرانه وأصحاب الحاجات.
وكان ديدنه ذكر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكثيرا ما كان يذكر بما كان عليه سلفه الصالح الشيخ سيدي الكبير والشيخ سيدي باب رحمهم الله جميعا. كما كان يحب الصالحين ويعظمهم ويعظم من ينتمي إليهم وكذلك حملة القرآن الكريم وأهل العلم.
توفي في شهرسبتـمبر سنة 1949م موافق ذي القعدة 1368هـ عن عمر ناهز 63 سنة, ودفن بجوار والديه الشیخ سيدي الكبير والشيخ سيدى محمد بتندوجه على بعد 78 كلم من أبی تلمیت. 

رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
وقد خلف ثروة هائلة من الكتب المخطوطة والمطبوعة.

                          ******

لئن فجعتنا الحادثات بشخصه *** فآثاره فينا يدوم اتصالها
                         *******  
قال العلامة المختار بن حامد  يرثي أحمد بن الشيخ سيدي باب رحمهما الله:
لو يرد القريض حبا فقيدا *** لملأنا الفضا قريضا فريدا
ولو أن الحبيب يفدی بعلق **** لبذلناه طارفا وتليدا
ولو ان البكاء يوما على حـ *** ب فقید يرد حبا فقيدا
لبكينا وكان أمرا خفيفا *** وسريعا ووافرا ومديدا.

وقال العلامة محمد سالم بن عدود في رثاء الشيخ أحمد بن الشيخ سيدي باب:

 جيدُ المكارم والمفاخر عاطل *** مذ فارق الإمام العادل 

الشيخ أحمدُ من مشى فوق الثرى *** قولا وفعلا الهمام الفاضل 

المشتري حسن الثناء بماله *** والقائل القول السديد الفاعل 

يبكي عليه الضيف إن جا طارقا *** وذو الحوائج والفقير العائل 

والخمس والسبع المثاني والهدى *** والعلم والخلق الجميل الشامل 

فالعين تدمع والفؤاد مفجع *** والصبر يعجزنا ونحن نحاول

إنا وإن عظم المصاب بفقده *** وخلت منابر بعده ومنازل 

نسلوه بالأمثال من أشباله ***  فالكل فيه فضائل وفواضل 

فالشمس إن أفلت وخلت أشمسا *** سليت فما يبكي عليها عاقل 

وبنوا أبيه يهونون مصابه *** ما فيهمُ إلا إمام كامل.

       وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي