إمامُ جميع الزَّاهدين بأسرِهِم *** ووارثُ خيرِ الخلْقِ في العِلْمِ والعملْ
وأنصرهُمْ للحقِّ بالحقِ جهْرةً *** وأبصرُهُمْ عند ارتباكِ ذوي النِحَلْ
رقى في العلا لمَّا ترقّى لِهامها *** وسامى سماءَ العِزِّ سَمْتٌ بِه اتَّصَلْ
هو الحبْرُ في العِرفانِ طالتْ يمينُهُ *** هو البَحْرُ حقًا والبرايا هُمُ الوَشَلْ
هو الشيخ إسماعيل بن الشيخ سيدي باب أمه فاطمة امباركه ( الناهه ) بنت المختار بن عبد الفتاح بن عبد الله بن ألفغ نلل، ولد في 21 شهر المحرم سنة 1317هـ الموافق 01 يونيو 1899م عند موضع يسمى احسي امباركه بولاية الترارزة، وقيل بانْعيمات بالقرب منه.
تربى وترعرع ونشأ في حضن والديه ونهل من معينهما حيث العلم والمعرفة والتقى والورع والكرم والسخاء، فسار على نهجهما واقتفى أثرهما.
لزم العلماء والمقرئين، درس عليهم القرآن الكريم وأخذ عنهم العلوم الشرعية، على رأسهم والده الشيخ سيدي باب الذي أفاده بالعلم ومكارم الأخلاق، كما درس على العلامة المقرئ محمد المصطفى بن ابنُ، والعلامة محمد سالم بن حامدت، وعلماء أجلاء آخرين.
إمام السُّنّة، والمُذهِبُ من البِدَع كل غيهبٍ ودُجُنّة، وحامي حمى الدين، ودافع الشُبَه عن ملّةِ سيد المرسلين، وأحد العلماء الراسخين، الفائق زهدًا وورعًا ودينًا، جامع مجامع العلوم، الآخذ بحُجَزِ النقل والمفهوم، الناصر للسنة الغراء، والقائم العارف بشؤون القضاء.
لم يزل مواظبًا للطاعات والعبادات، قائمًا لله تعالى بالحجج البينات، عاملاً بالدليل، تاركًا للتقليد، متمسكًا بالسنة المطهرة في كل حقير وجليل، معتصمًا بكتاب الله العزيز، لم يعمل في خاصة نفسه إلا بالدليل من الكتاب والسنة، وكان له همة سامية في ذلك، وحمية نامية فيما هنالك.
حسن التَّقْرِير وتحبير التَّأْلِيف والتحرير، ألف كتبا عديدة، ودوَّن أحداثا ومناسبات كثيرة، وصنف تصانيف معروفة في النوازل الفقهية بلغت مائة وأربعين مصنفا (140)، له الباع الطويل في معرفة التاريخ والسير والأنساب.
إذا انْسابَ في تَقْريرِ نَصٍ تَرادَفتْ *** له فِكَرٌ كالوحْي أو هِيَ أقْربُ
لم تختلفْ له حالٌ ولا تبدَّلتْ له سيرة، ولا اكتَسَبَ قطُّ شيئًا من عَرَض الدنيا، ولا وَضَع مَدَرةً على أُخرى، مقتنِعًا باليسير، راضيًا بالدّون من العَيْش، معَ الهمّة العَلِية، والنفْس الأبِيّة، على هذا قَطَعَ عُمُرَه، وهذا كان دأْبَه إلى أن فارق الدنيا، ولم تكنْ همّتُه مصروفة إلا إلى العِلم وأسبابِه، والسعي في مصالح العباد والبلاد.
حازماً في أموره، لا يضع الشيء إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار، سمح الْكَفّ جوادا لاتزال إحساناته للْفُقَرَاء والمحتاجين واصلة، وعطاياه لذوي القربى واليتامى والأرامل مترادفة، دمث الأخلاق متواضعا.
تولى القضاء سنة 1351هـ ـــ 1933م وكان أعلم الناس بأحكامه، مع فطنة وذكاء، ومعرفة وعقل ورصانة.
قاض علت مناقبه وراقت مشاربه وعمّت مواهبه، وأنارت مذاهبه، وطابت أرومته، وعظمت أوقاته، وكملت حالاته، وصفت صفاته، وسمت سِماته، وبزغ بدره، وكرم قدره، فهو كما قال القائل:
لا يُدرِكُ الواصفُ المُطري خَصَائِصَهُ *** وإنْ غَدا سابقًا في كلِّ ما وَصَفَا
تمتع - رحمه الله - بنزاهة علمية رفيعة، متمسكاً بما يمليه عليه دينه الحنيف من استقامة لا عوج فيها ولا انحراف.
أميناً صادقاً في حكمه، فلا يُصدر حكماً إلا بما يعلم، حريصا على توخي العدل والإنصاف بين الخصوم. وكان يفزع إليه في الفتيا في الفقه، وإذا لم يجد من علمه ما يمكنه أن يُصدر حكمه في أية نازلة عرضها على الكتب والمراجع الفقهية الكبرى، أو أحالها على غيره من العلماء، إنها الأمانة العلمية التي حملته على قول الحق بكل صدق وإخلاص، كيف لا؟ وهو العلامة المتبحر العارف بمعالم السنة النبوية، والحافظُ المحافظ على الآثار المحمدية، والذّابّ عن مشارع الشرع المطهر، بمعرفة المعروفِ، وإنكار المُنكر.
قومٌ إذا حضروا الندي تميزوا *** بعلوّ مرتبةٍ ونور جبينِ
متزلفين إلى الإله فشأنهم *** إصلاح دنيا أو إقامة دينِ
طود من الفضل استقلّ زمامه *** بإغاثة الملهوف والمحزونِ
قاضٍ كأن الحق نورٌ ساطعٌ *** يغشى الورى من وجهه الميمونِ.
ووجدت له بخطه في ورقة داخل كتاب المزهر في علوم اللغة العربية للسيوطي ــ وهو من كتب والده الشيخ سيدي باب ــ ما يلي:
حدثني مزاحم بن زُفَر قال: قدمتُ على عمر بن عبد العزيز في وفد أهل الكوفة فيسألنا عن بلدنا وأميرنا وقاضينا، ثمّ قال: خمسٌ إن أخطأ القاضي منهنّ خصلةً كانت فيه وَصمة: أن يكون فهيمًا وأن يكون حليمًا وأن يكون عفيفًا وأن يكون صليبًا وأن يكون عالمًا يسأل عمّا لا يعلم.
أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي قال: حدّثنا سفيان، عن يحيَى بن سعيد عن عمر بن عبد العزيز قال: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي ملامة الناس. انتهى من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد.
كان مسكنه على كثيب الاحواش بأبي تلميت، وبالقرب منه يوجد مصلى العيدين، حيث كان يؤم الناس في مبدأ أمره إلى أن ضعف فتخلى عن الإمامة لابن أخيه الشيخ إسحاق بن محمد بن الشيخ سيدي.
بويع له بخلافة أهل الشيخ سيدي في بتلميت بعد وفاة سلفه الشيخ إبراهيم بن الشيخ سيدي باب
يوم 24 شوال عام 1403هـ، الموافق 04 أغشت 1983م، فساس الأمور أحسن سياسة مع الوقار والحرمة والدّيانة والأمانة، ودبرها بحكمة ورزانة، وأثر آثارا حسنة، واستخدم جاهه في إغاثة الملهوفين ومواساة الفقراء وإعانة المحتاجين.
اشْتهر عَنه الكَثير من الإيثار وتفقد الأقرباء والغرباء ورقيقي الْحَال، واجتهاده فِي مصالحهم وصلاتهم ومساعدته لَهُم، بل وَلكل أُحد من الْعَامَّة والخاصة ممن يُمكنهُ فعل الْخَيْر مَعَه وإسداء الْمَعْرُوف إليه بقوله وَفعله وَوَجهه وجاهه.
وَأما تواضعه فَمَا رَأَيْت وَلَا سَمِعت بِأحد من أهل عصره مثله فِي ذَلِك، كَانَ يتواضع للكبير وَالصَّغِير والجليل والحقير والغني وَالْفَقِير.
وَكَانَ لَا يسأم مِمَّن يستفتيه أَو يسْأَله، بل يقبل عَلَيْهِ ببشاشة وَجه ولين عَرِيكَة، كَبِيرا كَانَ أَو صَغِيرا رجلا أَو امْرَأَة عَالما أَو عاميا حَاضرا أَو باديا، وَلَا يجبهه وَلَا يحرجه وَلَا ينفره بِكَلَام يوحشه بل يجِيبه ويفهمه ويعرفه الْخَطَأ من الصَّوَاب بلطف وانبساط.
وَكَانَ يلْزم التَّوَاضُع فِي حُضُوره من النَّاس ومغيبه عَنْهُم فِي قِيَامه وقعوده ومشيه ومجلسه ومجلس غَيره.
لزم المدينة واستقر بها حيث كان المرجع في المهمات، والمدار عليه في الملمات، يغيث الملهوفين، ويسعف المحتاجين، ويكشف كرب المكروبين، ويتفقد أحوال ذوي القربى والأيتام والأرامل في كل حين، كان آيَةً مِنْ آيَات الزَّمَان وَنَادِرَة مِنْ نَوَادِرِ الدَّهْر ومحاسن العصر، ومآثره وَصِفَاته الْحَسَنَة وأحواله العجيبة الغريبة لَا يُحِيط بهَا وصف واصف وَلَا مدح مادح.
توفي رحمه الله ليلة الأربعاء 26 ربيع الثاني 1409هـ الموافق 6 دجنبر 1988م ودفن عند البعلاتية بأبي تلميت.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته
*******
سقى الله قبرًا ضمَّه وابل الحيا *** وحيّاهُ بالرضوان رضوانُ والحسنى
وألبسَهُ من كاملِ العفوِ حُلّةً *** تفوقُ به ظُرْفا وتزهو بهِ حُسنًا
وأتحفَه في قربهِ ورضائِهِ *** بدائع نعماءٍ لهُ قد غَدَتْ حُسْنى
********
لأمرٍ مَا، تغيَّرتِ الدّهورُ *** وأظلمتِ الكواكبُ والبدورُ
وطال على نجِيِّ الهمِّ ليلٌ *** كأنّ النَّجمَ فيه لا يَغورُ
لِنبأةِ صارخ وطروقِ خطْبٍ *** تكادُ له الجوانحُ تستطيرُ
فبانَ لوَجْدِه أسَفٌ وحُزنٌ *** وبان لفَقْدِه كرَمٌ وخِيرُ
وضَنَّ الدهرُ أن يأتي بمثلٍ *** لهُ والدهرُ وَلّادٌ حَصُورُ
وأنّى للزّمانِ به سَماحٌ *** وأُمّ الدهرِ مِقلاةٌ نَزورُ
لقد فقَدَ الأيامَى واليَتامى *** مكانَك والمحافلُ والصدورُ
وعُطّلتِ المدارسُ من مُفِيضٍ *** علومَ الوَحي ليس له نظيرُ
تمثَّلَ قائلٌ فأجاد فيهِ *** وقد يتقَدَّمُ المعنى الأخيرُ:
لَعَمْرُك ما الرَّزِيّةُ فَقْدُ مالٍ *** ولا شاةُ تموتُ ولا بعيرُ
ولكنَّ الرَّزيّةَ فقدُ قَرْمٍ *** يموتُ بموتِه بَشرٌ كثيرُ.
*********************
يقول العلامة الفاضل الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدي في رثاء الشيخ إسماعيل بن الشيخ سيدي باب:
أجدك لم تحزن على الدين والأثر *** ولم تبك إجراءَ المدامعِ بالسَّحر؟
ولم تأسَ للخطب المُريعِ ووقعِه *** وقد غابت الشمسُ المضيئة والقمر؟
وبُدلت الدنيا وحالَ نعيمُها *** فيا لك خطبا ما أشدَّ وما أمَرّْ
لقد غالت الإسلامَ دهياءُ صيلمٌ *** وإذ يُهد الحق من فادح الغِيَر
فهذا إمام المخبتين قد انقضت *** لياليه فهو اليوم في باطن الحُفر
سراج الهدى قاضي الجنان من ارتضى *** مجاورة الرحمن في خير مستقر
هو الموت يودي بالخلائق كلهم *** فما لهم عنه، محيد ولا مفر
فما العمر إلا منحة ووديعة *** قضاء من الله المهيمن قد قدر
وليس لنا إلا الرضا بقضائه *** وأحكامه إذ لا محيص ولا وزر
على أن إسماعيل هُد بفقده *** منار على ريب الزمان قد استقر
حمى سنة المختار ستين حِجة *** فلله سعيٌ ما أشقَّ وما أبرّْ
يعض عليها بالنواجذ جاهدا *** ويزجر من حادوا بما فيه مزدجر
ولله علم لا تكدره الدِّلا *** غزير فما البحر الخضم إذا زخر؟
فقد كان فياضا بعلم مصحح *** تليد من الذكر المبارك والخبر
يحل عويصات العلوم بديهة *** ويَنْظم من در المعارف ما انتثر
ويُفزع في الفتيا إليه وفي القضا *** فكان إليه الوِرد في ذاك والصدر
ولله إحسان وجود ونائل *** وزهد وعدل في القضاء إذا حضر
فما مثل إسماعيل قاض علمته *** على ظهرها في الحاضرين ومن غبر
ولله آداب حسانٌ وحكمة *** وطبع كما مر النسيم على الزهر
ولله نفس لا تزيغ عن الهدى *** ولله طود ما استطال ولا افتخر
فلهفي على ذاك الفقيد وسَمْته *** وهدْيٍ كهدْيِ المصطفى من بني مضر
لئن كان ذا مجد تليد فإنه *** على شأو أهليه الخضارم قد أبر
لقد كان في جيد الزمان يتيمةً *** تتيهُ على غُر اللآلئ والدُّرر
وعلقا نفيسا لا يقدر قدْره *** وغرة دهر لا تُشابهها الغرر
ونُعمى لكل المسلمين ورحمة *** بما كان نفعا لا ضِرار ولا ضرر
ستبكيه أقلام وصحْف كثيرة *** تعَهَّدها بالدرس والنقل والنظر
ويبكيه نجد قد أناف على الرُّبى *** أقام به یُحيي الصحاحَ من الأثر
ويبكي اللِّوى والسِّقْط من جنباته *** وتبكي الحَصى والباسقاتُ من الشجر
وتبكيه أيتامٌ وكلُّ مُدَفَّع *** طريدٍ وتبكيه الحواضر والوَبر
فكم بذل المعروف بِرًّا وحِسبة *** على كل حال بالعشيات والبُكر
وكم فكَّ أغلالًا ونفَّس كربةً *** وأوْلَى لذي الحاج المطالبَ والوَطَر
فلله أوقات من الدهر قد صفت *** نُمَتع فيها بالأحاديث والسَّمر
لياليَ روضُ الدین ریانُ باسِمٌ *** وربْعُ العلا بالرُّبوَتين قد ازدهر
فإن تك أياما عِذابا فإنّها *** غدت عِبَرا تُذكي التباريح والذِّكَر
فبالصدرِ حُزَّاز من الوَجد والأسَى *** وللنفس لوْعات تُشَب فتستعِر
ومن عرف الدنيا تيقن أنها *** سرابٌ ولهوٌ لا يَغُر من ادَّكر
فكم من قرون قد خلت وممالكٍ *** غدت خبَرا إذ لا حسيسَ ولا أثَر
ونحنُ - وإن جلَّ المصابُ - فإننا *** نُسلِّمُ ما يُقضَى ونومنُ بالقدَر
وقد كان إسماعيلُ بالموت موقِنا *** وقد كان مِن دُنياهُ يستخلِصُ العِبر
ويعزفُ عن دار الغرور وأهلِها *** ويصرفُ للأخرى البصيرةَ والبصر.
وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي