شيخ المكرمات ... ورجل المهمات:
لقد حفل تاريخنا في القديم والحديث بأعلامٍ وعظماء كان لهم الذكر الحميد، والفخر المجيد، والأثر البارز التليد، لذا سطَّر التاريخ ذكرَهم بمدادٍ من ذهب على جبين الدهر.
ومن هؤلاء الأعلام العظماء البارزين الذين كان لهم أثرٌ واضحٌ وميراثٌ وتراث:
فتى كرمت آباؤه وجدوده *** وطابت مساعيه فتم له الفخر عفيف ملاث البرد عن كل زلة *** وفي أذنه عن كل فاحشة وقر
جواد له في كل أنملة مجد *** بصير له في كل جارحة فكر
هو الشيخ الفاضل الخليل بن أحمد بن الشيخ سيدي باب رحمه الله.
كان تقيا دينا ورعا، فاضلا بارزا من وجوه كبار عصره، وأفراد دهره، من بيت التقى والسؤدد والعلم والكرم الأصيل. نشا وتربى في العلم والسداد والشهامة ومكارم الأخلاق.
لازم أباه، وعنه أخذ الأدب والتربية والأخلاق، درس القرآن الكريم حتى حفظه، وصحب الكبار من الفضلاء والعلماء، وكان يوزع وقته بين الحفظٍ والدراية، والاجتهادٍ في التحصيل والرواية.
اشتهر بالعفاف فلزمه، ويسر للعلم فتعلمه.
قد عرفت له مروءته وقدره بأبي تلميت.
كان يتميز على أهل منطقته بحسن الأخلاق والسخاء، وكثرة المعروف والعطاء. شهدت مساعيه بفضله، فصدق أقوالَه السنيةَ بشريف فعله.
كان رحمه الله ثقة متحريا، إلى غاية ما عليها مزيد:
القانِتُ القَوَّامُ والصوامُ والسـ *** ـاعِي بخَطو في العُلوم وَسَاعِ
كان مُستمرًّا على شَاكلةٍ حَميدَة، وطَريقَةٍ سَدِيدة منذ كان حَدَثًا إلى أنْ طَعن في السِّنِّ وكبرَ، ولم يَزَل يعلو بهِمَّته إلى جِسَامِ الأُمُور، ومَجرى الصَّوَاب في مَسَاعيهِ ومقَاصده كُلها:
مواهب شتى بين جود ورحمة *** إذا ما ادعاها الأجر نازعه الحمد
تفرغت شغلا بالمعالي وإنما *** تروح لتشييد المكارم أو تغدو
ففي قربك الزلفى وفي وعدك الغنى *** وفي بشرك الحسنى وفي رأيك الرشد.
زاول مهنة التعليم من المزمزم إلى أبي تلميت.
كان وقورًا، مَهيبًا، أَدِيبًا، مُختَصر الكَلَام مُوجزه، مَعَ البَيَان والإفهامِ، حُلوَ المَنْطِق، حَسَنَ الأخْلَاقِ، مَلِيحَ المُحَاوَرَة، دائمَ البِشْر، ما عُرِفَت له هفْوةٌ:
بالجهد أدْرك مَا أَرَادَ من العلى *** لَا يدرك العلياء من لَا يجهد
وكانت له أحوال وهمة عظيمة في خدمة الناس على مر السنين والأحوال.
وَحكي لي عَن مروءته فِي السَّعي مَعَ النَّاس لقَضَاء أشغالهم أشياء كثيرة، وَعَن الشفاعات لهم.
اشتهر هذا الأمر عنه وذاع، وامتلأت به النواحي والبقاع:
لقد كنت عَن شَرّ بطيئا ووانيا *** وَفِي طلب الْخيرَات عجلَان مسرعا
فكان يسعى في شؤون الأرامل والضعيفات والفقراء من الناس، ويتولى قضاياهم والدفاع عنهم دون مقابل، وقد أصبح بهذا مقصدا لأصحاب الحاجات من الناس، وخاصة من النساء الضعيفات والمغلوبات على أمرهن، فكان يتولى شؤونهن في المكاتب الرسمية، كما كان يتولى الإصلاح بين الناس، وخاصة حينما يقع الخلاف بين زوجين، وغير ذلك.
وهكذا كان الحكام وأصحاب المكاتب وغيرهم يستجيبون له لثقتهم بإخلاصه وحبه للنفع العام.
وكان الشيخ الخليل يتمتع بحب الناس لما يبذله في خدمتهم من وقته وجهده، وأستطيع أن أقول إني على قدر ما عرفته وعرفه غيري لم نره مشغولا بأموره الخاصة بقدر ما هو مشغول بشؤون الناس.
وقد رزق القبول التام، وألبس حلة المحبة عند الخاصة والعامة واجتمع له من الوجاهة والتوفيق والعمر المديد في العز والعمل والتقدم ما لم يجتمع لغيره.
كان رحمه الله أشهر، وذكره أسير، وفضله أكثر من أن ينبه عليه، وله مع كرم حسبه وتكامل شرفه فضيلة علمه وأدبه.
له قدم راسخ في التاريخ والفقه، ومعرفة أحوال الناس، مع تثبت كلي في الضبط والتحري فيه، مع ما تحلى به من الصيانة والديانة والأمانة، والمحافظة على مروءته، والوقوف على الحدود وحسن السكينة.
وكان من الأخلاق بالمحل الأعلى، وله من سائر المحاسن القدح المعلى.
وزيادة على ذلك فقد تحلى بكمالات لا تحصى، ومزايا لا تستقصى.
توفي الشيخ الخليل بن أحمد بن الشيخ سيدي باب رحمه الله يوم 21 يونيو 1994م، الموافق 12 محرم 1415هجرية، بأبي تلميت، ودفن عند البعلاتية رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من جناته:
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعامله بالرضوان، ويجعله في جوار سيد ولد عدنان، فإنا لا نقدر على إيفاء حقه فيما ننثر وإن نظمناه، ولا يطيق أحد أن يبلغ في وصفه إلى ما يتمناه:
فمن لنوادي الفضل بهجة صدرها *** وملبسها من فضل أقواله شنفا
فمن للقضايا المعضلات يحلُّها *** بصارم فكر لا يفل ولا يحفى
ليبكه ملهوفُ الجوانح غلَّةَّ *** إلى عذب فتيا كان منهلها الأصفى
ترحَّل فاقتاد القلوب وراءه *** ولا غرو إذ تقفو المعارف والظرفا
على أنه قد فاز بالفضل والرضا *** وخلف ذكراً طاب ترديده عرفا
وبلَّغ في الدنيا الذي شاء من علا *** ولم يرغم العداء من عزه أنفا
فألبسها من عدله وعلومه *** ملابسَ قد زانت لها الصدر والعطفا
عليه من الرحمن أزكى تحية *** تقر بها عيناه في جنة الزلفى.
يقول الشيخ أحمد بن آل محمد بن الشيخ سيدي باب رحمهم الله تعالى في رثاء الشيخ الخليل بن أحمد:
إن ياخذ الموت منا اليوم أفضلنا *** سليل أحمد إبراهيم ذا الخطر
فإننا صبر في كل كارثة *** وإننا معشر ننقاد للقدر
قناتنا صلبة أعييت مشققها *** حتى تلين الصفا لماضغ الحجر
فراح عنا سليم العرض وافره *** مسلما منه في بدو وفي حضر
فعاش ما عاش في خير ومحمدة *** برا كريما مفيدا طيب الخطر
سقى الضريح الذي آوى امرأ *** تنھل شجاجة من اغزر المطر
بجاه أحمد خير الخلق أجمعه *** صلى عليه الذي اجتباه من مضر
لا زال في الرحمات الوطف تغمره *** بوابلات غزيرات من الخير
وبارك الله في من كان خلفه *** ودام عزهم يزداد في العصر.
ويقول الشيخ سيدي محمد ( الفخامة ) بن عبد الرحمن( الحكومة ) بن الشيخ سيدي في رثاء الشيخ الخليل بن أحمد:
بما قدر الله النفوس تطيب *** وترضى بما يقضي القريب المجيب
ففعل الرحيم الفرد فضل ومنة *** تسر به أرواحنا والقلوب
فصبرا فإن النائبات تنوب *** وليس لنا عما ينوب عزوب
إلى أن يقول:
دعا الله إبراهيم ذا المجد والندى *** فلبى نداء ليس عنه مغيب
خليل المعالي والمعارف والعلا *** وقور بصير بالزمان مهيب
يسير إذا ما سار بالخير والهدى *** ويرجع بالخيرات حين يئوب
له فعل أجداد وحفظ مآثر *** ومرتبة حسنى وقول مصيب
فلا خيب الرحمن مسعاه كله *** ومن يسعى للرحمن كيف يخيب
وأولاه رب العرش حسنى وزاده *** وقربه فهو الكريم القريب.
وكتب عنه الشيخ أحمد بن آل محمد بن الشيخ سيدي باب ورقة مشيدا فيها بمآثر الشيخ الخليل بن أحمد ومبينا ما تحلى به من الصفات الحميدة، أحببت أن أثبتها هنا لأهميتها.
كتب الشيخ أحمد بن آل محمد بن الشيخ سيدي باب:
(( إبراهيم المعروف بالخليل بن أحمد بن الشيخ سيدي المتوفى عام 1415، الموافق 21 يونيو 1994م، من أهل الفضل والنزاهة، والهمة الرفيعة، واستقامة الطريقة، وحسن التسمت، والسعي لاقتناء المروءة.
لازم أباه واستظهر هديه، وما أخال أن أحدا يجهل جلالة أبيه خليفة الشيخ سيدي، وابنه هذا كثير المزايا مع الأخلاق العظيمة، والسجايا الطيبة، والاستقامة الدينية. ليس فاحشا ولا متفحشا ولا متكبرا ولا طائشا، تهذبت شيمته وتشحذت قريحته، ديدنه التقرب إلى الحق بمعونة الخلق.
أشهد أنه سالك على سواء السبيل، ومنتم إلى أكرم قبيل.
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، فإنا لله وإنا إليه راجعون:
فإن تكن الأيام فينا تبدَّلت *** بِبُؤْسَى ونُعمَى والحوادثُ تفعَلُ
فما ليَّنتْ منا قناةٌ صَلِيبَةٌ *** ولا ذلَّلتْنَا للتي ليس تجمل
ولكن رحلناها نفوساً كريمةً *** تُحمَّل ما لا يُستطاع فَتحمِلُ.
شهادتي بالله أن هذا المغفور له من أفضل هذه الأسرة، وأعظمها غناء، وأحسنها سلوكا في دينه ودنياه، برا وصولا.
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.)).
وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي