الشيخ سليمان بن الشيخ سيدي باب

 

كِلتا يَدَيهِ غِياثٌ عَمَّ نَفعُهُما *** يُستَوكَفانِ وَلا يَعروهُما عَدَمُ

سَهلُ الخَليقَةِ لا تُخشى بَوادِرُهُ *** يَزينُهُ اِثنانِ حُسنُ الخَلقِ وَالشِيَمُ

حَمّالُ أَثقالِ أَقوامٍ إِذا اِفتُدِحوا *** حُلوُ الشَمائِلِ تَحلو عِندَهُ نَعَمُ

ما قالَ لا قَطُّ إِلّا في تَشَهُّدِهِ *** لَولا التَشَهُّدُ كانَت لاءَهُ نَعَمُ

عَمَّ البَرِيَّةَ بِالإِحسانِ فَاِنقَشَعَت *** عَنها الغَياهِبُ وَالإِملاقُ وَالعَدَمُ

 

هو مصباح الدجى وبحر الندى وصرح العلا : الشيخ سليمان بن الشيخ سيدي باب, شيمته الكرم والسخاء , وطبعه الرحمة والرأفة والحلم والأناة

ولا بلغتْ أَكُفُّ ذوي العطايا *** يَميناً منْ يَديهِ ولا شِمَالاَ

وما كانتْ تجف لَهُ حياضٌ *** منَ المعروفِ مُتْرَعةٌ سِجَالاَ

كان رحمه الله تعالى عابدا تقيا ورعا حلو الشمائل باذلا للمعروف كثير الإنفاق ساعيا في مصالح العباد والبلاد , وفي سماء الشهرة يعتبر من أهم الشخصيات السياسية والمجتمعية في موريتانيا.

ولد الشيخ سليمان بن الشيخ سيدي باب في 14 يونيو 1924م في بوتلميت ، وقد عاش في بيئة سيادة وقيادة، حيث وجد في الدائرة العلمية التي يمثلها إخوته وتلاميذ والده محضنا علميا نهل منه إلى أبعد الحدود، وكان من أبرز شيوخه في المرحلة المحظرية العالم المقرئ محمد محمود ولد اكرامه ونجله محمد سالم، والعلامة المقرئ عبد الودود ولد حميه، والقاضي سيدي محمد بن داداه، ونجله العلامة عبد الله بن داداه، وعلماء آخرون متعددون، كما وجد في مكتبة والده فضاء واسعا للمطالعة والنهل من معارف شتى خصوصا أن تلك المكتبة امتازت بالوفرة والانفتاح على مختلف دوائر المعرفة الإسلامية والإنسانية المتاحة لصاحبها يومها.

التحق سليمان بن الشيخ سيدي بالمدرسة النظامية سنة 1942م، ليكون أول أنجال والده دخولا للمدرسة، وقد كان الفرنسيون حريصين جدا على دخول سليمان ولد الشيخ سيدي إلى المدرسة، وذلك خشية التحاقه بأخيه هارون في هجرته المشرقية التي طاف بها عددا من بلدان الشرق العربي.


وفي سنة 1945 تخرج من المدرسة الفرنسية، بشهادتي ختم الدروس الابتدائية وشهادة الازدواجية FRANCO-ARAB، وقد كان من المقرر أن يتم إرسال الشاب سليمان إلى المدرسة الجزائرية، ليدرس الحقوق والقانون، حيث كانت يتخرج من تلك المدرسة كبار القضاة والحقوقيين، قبل أن تحول ظروف الحرب العالمية الثانية دون ذلك.

تم توجيه سليمان بن الشيخ سيدي رفقة ابني أخيه وأخته إسماعيل بن إبراهيم بن الشيخ سيدي ومحمد بن الشيخ بن أحمد محمود (أول وزير دفاع لموريتانيا) إلى ثانوية فان فولانوفن ليكون الثلاثي أول من ينتسب إلى الثانوية المذكورة، ومن غير حاملي الجنسية الفرنسية أيضا.

وفي سنة 1948م تخرج من الثانوية وتم توظيفه مستشارا بالديوان السياسي لحكومة غرب إفريقيا، رغم أنه حاول التملص بقوة من الوظيفة، لكن ضغوطات الحاكم الفرنسي كانت قوية.

انتخب سليمان بن الشيخ سيدي سنة 1953م برلمانيا في مجلس الاتحاد الفرنسي، ويمثل هذا المجلس الغرفة الثالثة في البرلمان الفرنسي في ظل دستور الجمهورية الرابعة، كما انتخب أيضا عضوا في الجمعية الإقليمية لموريتانيا رفقة الزعيم التقليدي لقبيلة أولاد دامان السيد بونه مختار.

كما انتخب البرلماني الشاب أيضا نائبا لرئيس المجلس الكبير لغرب إفريقيا وكان برئاسة السياسي المرموق هوفووت ابوانيي الذي سيتولى بعد ذلك رئاسة ساحل العاج.

لقد مثلت التجربة البرلمانية بالنسبة لسليمان بن الشيخ سيدي المفتاح الأساسي نحو الممارسة السياسية الراقية، وكان يردد أكثر من مرة أن الديمقراطية البرلمانية هي أفضل نظام للحكم، متناغما في ذلك مع العبارة المنسوبة لرئيس الوزراء البريطاني تشرشل في نفس الموضوع.

كان سليمان سياسيا لامعا وخطيبا مسلاقا وديبلوماسيا محنكا وقائد رأي... تميز باللباقة وحسن المعاشرة ودماثة الخلق والكرم الذي لا يقف عند حد، مما جعله يتحول في فترة وجيزة إلى شخصية وطنية ودولية مرموقة.

آمن سليمان بن الشيخ سيدي بالديمقراطية وسعى إلى ترسيخ التعددية السياسية رغم العقبات الكثيرة التي واجهته، وكان يردد إن سر نجاح الغرب هو أنه استطاع حل معضلة الوصول إلى السلطة والخروج منها، وهو ما مكن الناس من التفرغ للصناعة والعلم والتنمية.

 

راعي الاستقلال:

تولى سليمان بن الشيخ سيدي مهمة الدفاع عن أحقية موريتانيا في الاستقلال وتفنيد المزاعم المغربية بتبعية موريتانيا للعرش العلوي، وبكارزميته وخطاباته المشهورة، زيادة على الدعم الفرنسي الكبير لموريتانيا يومها استطاع سليمان بن الشيخ سيدي كسب معركة الاستقلال سنة 1961م

 


سليمان الديبلوماسي:

كان السفير الأول لموريتانيا في الولايات المتحدة وممثلها الأول لدى هيئة الأمم المتحدة وهو من أدار حملة الحصول على عضوية الأمم المتحدة بنجاح وتوجت جهوده بحصول موريتانيا على مقعدها في الأمم المتحدة في أكتوبر 1961 وألقى بالمناسبة أول خطاب رسمي موريتاني من على منبر الأمم المتحدة، عبر من خلاله عن جنوح موريتانيا الدائم للسلم والاستقرار في العالم واحترامها لمبادئ حسن الجوار وسعيها لتعزيز التعاون في كافة المجالات مع الجميع، وعبر بقوة عن مساندة موريتانيا لكل قضايا التحرر وللقضايا العادلة في العالم. 


سليمان المبادئ والأهداف:

تولى سليمان بن الشيخ سيدي منصب رئيس الجمعية الوطنية بعد اعتذار صديقه الحميم الأمير حمود ولد أحمدو ولد امحيميد عن المواصلة في المنصب احتجاجا منه على ضعف إشراك المنطقة الشرقية في التشكلة السياسية للنظام الجديد.


وقد ظل سليمان بن الشيخ سيدي يشيد في أكثر من مجلس ومناسبة بالدور الكبير الذي أداه حمود في تأسيس موريتانيا بشكلها الحالي، مؤكدا أن أمير مشظوف قرر التخلي عن حقوقه السياسية مقابل وحدة دولة موريتانيا، حيث كانت المعاهدة المبرمة بين أمراء أهل لمحيميد والمستعمر الفرنسي تضمن لهم العودة التلقائية إلى وضعيتهم السياسية قبل الحماية والحصول على استقلال الإمارة فور خروج الفرنسيين.

اصطدم سليمان بن الشيخ سيدي بسرعة مع الرئيس السابق المختار ولد داداه، وكان الأمر بالفعل خلال رؤيتين متناقضتين في الممارسة السياسية، فقد كان سليمان حريصا على قوة البرلمان وعلى إقامة تعددية سياسية، فيما كان الرئيس المختار ولد داداه مؤمنا بضرورة إقامة نظام رئاسي قوي.


أسقط البرلمان الموريتاني تحت رئاسة سليمان بن الشيخ سيدي المقترح الحكومي الذي قدمه المختار ولد داداه سنة 1962م، كما رفض أي مساس بالاستقلالية المالية للجمعية الوطنية، وهو ما دفع بالرئيس المختار ولد داداه إلى التخلص سريعا من ثنائية السلطة، واتخاذ قرار سريع بمركزة كل القوى في يديه.

وقد كان مؤتمر كيهيدي سنة 1963م فرصة للتحول إلى النظام الرئاسي.

  وتمكن نظام الرئيس المختار ولد داداه من إقامة نظام رئاسي، رأى أنه الأنسب لوضعية التأسيس خصوصا في ظل تعدد الأزمات الداخلية وتشعب القوى والقيادات المجتمعية.

 

مرجعية وزعامة اجتماعية:

غادر الشيخ سليمان بن الشيخ سيدي المشهد السياسي منذ العام 1963م وتفرغ للزعامة الاجتماعية في محيطه ومجتمعه، وقد تحول مع الزمن إلى قطب جاذب لعدد كبير من الموريتانيين الذين تحلقوا حوله.

اهتم سليمان بن الشيخ سيدي بشكل خاص بأزمة الحراطين، حيث دعا إلى التخلي عن الرق وإنصاف الأرقاء السابقين وتمكينهم من الولوج إلى الحياة، تعليما وريادة مجتمعية.

كما أدى الشيخ سليمان بن الشيخ سيدي دورا مكينا خلال الأحداث المؤلمة سنة 1989م حيث استطاع منع ترحيل عدد من قرى الزنوج الموريتانية في الضفة، كما أسهم في حماية الكثير من الزنوج الموريتانيين والسنغاليين من أعمال العنف العرقي التي واجهتهم في تلك الظروف المؤلمة.

واصل سليمان بن الشيخ سيدي حياته وزعامته السياسية والمجتمعية التي جعلته قبلة للعامة والخاصة وملجئا للفقراء والمحتاجين في موريتانيا، إلى حين وفاته 2 نفمبرسنة 1999م، في دكار حين كان يتلقى العلاج، ومن ثم تم نقل جثمانه إلى بوتلميت حيث ووري الثرى في مقبرة البعلاتية إلى جنب والده وعدد من أخوته ورفاقه, رحمه الله رحمة واسعة.

 

كرمه وجوده ومآثره:

لا يزال سليمان بن الشيخ سيدي باب مضرب المثل بالنسبة للموريتانيين في الكرم، ويتداول الناس قصصا متعددة عن كرمه الفطري، حيث كان يشتري آلاف المواشي ويمنحها مجانا للسكان مساعدة لهم على حياتهم القروية، وخصوصا في سنوات الجفاف التي امتدت لثلاثة عقود، إضافة إلى أعمال خيرية متعددة، جعلته قبلة للراغبين ومنهلا للواردين.

خلد الأدب الموريتاني بشقيه الفصيح والحساني كثيرا من مآثر الشيخ سليمان ولد الشيخ سيديا، فحسنت فيه المدائح والمراثي، ومن خالدات الأدب التي مدح بها قول أحد الشعراء والأدباء : وذلك عند ما هَمَّ سليمان بن الشيخ سيدي بالخروج من مبنى مفوضية الأمن الغذائي، ومعه ثلاثين طناً من البضائع. فسألته عجوز أن يجعل لها نصيباً مما لديه، فلم يتردد في منحها كل ما كان معه:

سليمان انهار اص فم ..==.. جابر عند المفوض كم
ش خالك ماني عارف كم ..==.. اثنعشر طون اسمعت انو
واسمعت اثلاثين اتكدم ..==.. بيه ماش بيه عنو
عرظتل كهله عند الفم ..==.. كالتل يسهمه منو

كام وطاهله فر اسهم ..==.. ش ماكانت كاع اتظنو
يغير ايدوره تفهم ..==.. عن معطاه اكبيرة سنو

عدت انا متمني عجلان ..==.. نجبر جيد يحلف دنو
يعطين معط سليمان ..==.. للكهله ، ولا اظنو

 

وكأن القائل عناه أيضا بقوله:

تعوَّدَ بسط الكفِّ حتى لو أنه *** ثناها لقبضٍ لم تُجِبهُ أنامِلُه

ترَاه إذا ما جئته متهللا *** كأنَّك تُعطيهِ الذي أنتَ آمِلُه

ولو لم يكن في كفه غيرُ رُوحِهِ *** لجاد بها فليتقِّ اللهَ سائله

هو البحر من أيّ النواحي أتيتَهُ *** فلُجّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحلُه

 

ومن مراثيه الخالدة قصيدة الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله:

 

نبأٌ أتاني مخرس للسان*** ماذا عسى أن تنطق الشفتان

أأعيد ما قد قيل قبلي سارقا *** ما ذاك من دأْبي ولا من شان

أجترُّ ما قد قلتهُ متواضعا *** في أهل هذا البيت منذُّ زمان

أأقول كان وكان لا أُحصي الذي*** قد كان من كانٍ هناك وكانِ

أأقول ساد وشاد لا أحصي الذي*** ذادت قيادته عن الأوطان

أأقول جاد وعاد لا أحصي الذي*** جادت يداه به لِعافٍ عان

أأقول قام وقال لا أحصي الذي*** من موقف أربى به ببيان

ماذا أقول وقد تناهت شِرَّتي*** وتناولت ذهني يد الحِدْثان

يا أهل هذا البيت لا قر العِدى*** عينا ولابرد الجَنان لشاني

هذي مآثركم بمجد جدودكم*** وبطيب عنصركم شهود عيان

هذا سليمان الكريم مشيعا *** بالبر والمعروف والإحسان

يُبْقي لنا الذكر الجميل وأسرةً *** أربت على الأبناء والإخوان

قد بيضت مِنَّا الوجوه وقلدت *** تاريخنا بقلائدِ العِقْيان

يارب أكرم نزله وأحلَّه *** في الخلد بين الحور والولدان

يعقوب ما بي حاجة لأقولها *** مدوا إلى الأفواه كل بنان

يمناك عبد الله مدا لِلَثْمِنا *** يمناك يعقوب يا ذا الثاني

مالي إلى تجديد عهد حاجة *** يهفو الفؤاد وتدمع العينان

والله يحفظكم ويبقي نصركم *** متواترا بتعاقب الأزمان

 

توفي رحمه الله ولسان الحال يقول :

مَضَى لسبيله معن وأبْقَى *** مكارمَ لن تبيدَ ولن تُنَالاَ

كأنَّ الشمسَ يوم أصيب مَعْنٌ *** مِنَ الإظلامَ مُلبسةٌ جِلاَلاَ

هُو الجبلُ الذي كانت نِزارٌ *** تَهَدُّ من العدو به الجِبَالاَ

وَعُطَّلَتِ الثُّغُورُ لفقد مَعْنٍ *** وقدْ يُروي بها الأسَلَ النِّهالاَ

وأَظْلَمَتِ العِراقُ وأَوْرَثَتْهَا *** مُصيبتُهُ المُجَلَّلَةُ اخْتِلاَلاَ

وظلَّ الشامُ يرجف جَانباهُ *** لرُكن العزّ حينَ وَهَي فَمَالاَ

وكادتْ من تهامَةَ كل أرضٍ *** ومن نَجدٍ تَزولُ غَداة زَالاَ

فإنْ يعلُ البلادَ له خُشُوعٌ *** فقدْ كانتْ تطولُ به اخْتِيَالاَ

أصابَ الموتُ يومَ أصابَ مَعْناً *** مِنَ الأحياءِ أكْرمَهُمْ فَعَالاَ.


وكتب : إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي