بنى ما بنى قدما أبوه رميثة *** وشاد الذي قد شاد من كل سؤدد
وأبيض طلق الوجه يهتز للندى *** ويجدي إذا شح الحيا كل مجتد
كريم حليم ماجد وابن ماجد *** ظريف شريف سيد وابن سيد
أشم طويل الباع ندب مهذب *** أغر رحيب الصدر ضخم المقلد
فدوحته بين الورى خير دوحة *** ومحتده بين الورى خير محتد
هو الشيخ سيدي محمد الملقب ( بَدَّ ) بن الشيخ سيد المختار بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي الكبير, والدته محجوبه بنت حبيب بن امرابط بن حبيب الله بن الفغ نل الأبييرية الفالية, ولد سنة 1317هـ ـــ 1899م,عند موضع يسمى ( احسي امباركه, وقيل انعيمات في نواحي الترارزة ).
في كنفِ هذه الأسرة العلمية المشهورة، وفي محيطها المفعم بالتقى، والورع، والنبل، والجود، والشهامة، كانت نشأةُ الشيخ سيدي محمد ( بَدَّه )، ويبدو أنَّ والده تلفَحَ فيه النجابة والنبوغ منذ صغره، فأولاه رعايةً واهتمامًا كبيرين، وكان به حفيا, فنهلَ الشيخ سيدي محمد من مَعينِ أبيه وارتوى، واستقى من مَنهلِه العذب الذي لا ينضب، وأفادَ إفادةً كبيرةً من علومه وأخلاقه وتجاربه.
وكانت بتلميت وحواضرها إذ ذاك زاخرةً بالعلماء المحققين في كافة العلوم والتخصصات، فنهل الشيخ سيدي محمد من علومهم، وظفر بالأخذ من كبار مقرئي وعلماء عصره، وقد تيسر له ملازمة جهابذتهم وأئمتهم، فكان لهذا الأمر مع ما أعطاه الله من كمال التهيؤ للعلم أثره المحمود في شخصيته العلمية.
كانت والدته محجوبه رحمها الله ترسله إلى عمه الشيخ سيدي باب للتعلم عليه، فتاثر بمنهجه السني كثيرا، واقتدى بهديه، وسار على نهجه، وكان كثيرا ما يحدث بذلك.
قرأ القرآن الكريم على المقرئ العلامة محمد المصطفى بن ابنُ, والعلامة محمد سالم بن حامدت فحفظه وأتقنه، وعند ختمه القرآن الكريم أرسلت والدته ثورا كبيرا لمقرئه فرده لها, واعترف بأنه لا يستحقه لأن الشيخ ( بده ) لم يكلفه عناء التدريس, بل كان يحفظ كلما كتب بسهولة وسلاسة, كما كان يقرئ نفسه بنفسه.
وتلقى كذلك علوم اللغة العربية وآدابها عن العلامة الشيخ يحظيه بن عبد الودود، وأخذ باقي العلوم والمتون عن العلامة سيدي محمد (الراجل) بن الداه بن داداه الذي توسم فيه مخايل الذكاء والفهم، وقرأ في محياه أمارات النباهة والطموح، فطلب من والده أن يتركه له ولو مدة عام حتى يستكمل تحصيل جميع ما عنده من العلم، وكان الراجل بن داداه إذا تكلم في العلم أسرع الشيخ سيدي محمد ( بَدَّه ) إلى فهمه، وكان إذا فهم شيئاً رسخ في قلبه.
مراتع أفضال وهضبة سؤدد *** وروضة مجد بالمفاخر تقطر
فظاهره بدر يريك محاسنا *** وباطنه يندى صفاء فيقطر
حصل من العلم ما ساد وجاد، ومن الأدب ما فاد وأفاد.
ولم يكن ــ رحمه الله ــ يحفظ الدرس بتكرار القراءة فحسب، وإنما بالتأمّل أيضا، وصرف همته نحو ما يروم حفظه، وقد وصفت هذه الطريقة بأنها طريقة الأذكياء.
ورث عن أبويه قوة الإيمان، وصدق العزيمة، وصلابة الحق، ونبل الأخلاق، والبذل والندى:
أجلّ الورى قدرا وجاها ورفعة *** وأكرم من يرجى عطاه ويقصد
يجود بما تحوي يداه تكرما *** ويعلم أن المال ليس يخلد
كان عاقلا، آية في الذكاء المفرط، عجبا في سرعة الحفظ، من أهل الفضل الكامل، والسمت الحسن، والهدى الصالح، مَشْهُورا بالصلاح والتقى، كثير الصلاة والصيام، حافظا لكتاب الله تعالى، يرتله آناء الليل وأطراف النهار، واسع الكف بالصدقات، كثير المعروف والخيرات، مشاركا بجاهه وماله، كثير البر بالناس، معظما عند الخاصة والعامة، شرف بنفسه وبأبوته، ومن أهل الثبات في أموره، ورِعًا، عابدًا، لوذعيا، عالي الهمّة، رفيع الْقدر، مُنْقَطع القرين فِي الزهادة وَالْعِبَادَة وَالصَّلَاح، شريف النفس:
هو العالم النحرير والعامل الذي *** تجرد للمولى عن الآل والمال
ذا مروءةٍ وأناة، كريما، سهل الخليقة مُجْتَهدا فِي عمل الخير، سريع الإدراك، متوقد الخاطر، جزيل العطاء، ممدوحا, مقصودا, عَمِلَ كَثِيرًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ, نَفّاعًا بمالِه وبجاهِه, نزيها في أحوالِه.
جوادا إذا جار الزمان على الورى *** يجود بما تحوي يداه وينفق
يجود على العافي ويبدي اعتذاره *** فأوراقه بالجود والبذل تورق
كان هو والشيخ إسماعيل بن الشيخ سيدي باب قرينين متحابين متوادين, وكثيرا ما كانا يجتمعان في خيمة واحدة صحبة ابن عمهما ورفيق دربهما سيدي محمد بن ديح, وتسمى هذه الخيمة (الخيمة الزرقاء).
وسعى فأدرك كل ساع قبله *** وسمت به همّاته ووقاره
سافر عدة مرات إلى السنغال وما جاورها، وكان كلما عاد يوزع على ذوي القربى والمساكين والمحتاجين ما منَّ الله تعالى عليه به من الخيرات، واستقر به المقام أخيرا في البلاد سنة 1958م.
توفي يوم 04 صفر سنة 1404هـ ـــ الموافق يوم 09 نوفمبر سنة 1983م، ودفن عند مقبرة البعلاتية بأبي تلميت.
رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته
*********
لأن تغيب منه في الثرى جسدٌ *** فما تغيب منه الذكر والأثر
********
قال الشيخ إسماعيل بن سيدي عبد الله يرثي الشيخ سيدي محمد ( بدَّه ):
قد سار بده نجل الاشياخ الأغر*** فى يوم الاربعاء رابع صفر
وقاك ما تخشاه ربنا العلي*** فطبق وصفك بوصفه الولي
والأهل خير خلف قد خلفك *** بمنه وعامه قد شرفك.
ورثاه العلامة الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدي بقوله:
ألم الردى والحادثات تنوب *** فبالعين نبع لا يغور سكوب
وبالنفس لوعات وبالصدر حرقة *** وبالقلب من حر الفراق لهيب
فيالك من بين أليم وفرقة *** وشحط ديار والمزار قريب
أيقضى حمام الشيخ سيد محمد *** ويكفي عويل بعده ونحيب
وما رزؤه إلا مصاب مجلل *** تصدع أكباد له وقلوب
تولى الرضى قطب الشريعة والهدى *** تقيا نقيا ما عليه ذنوب
عهدناه بحرا بالعارف زاخرا *** وعبدا إلى رب العباد ينيب
فيارب أكرم نزله وتوله *** بمنزلة فيها الثواء يطيب
وبارك إلهي في بنيه وعافهم *** فأنت سميع للدعاء مجيب.
*************
أعلمت من حملُوا على الأعواد *** أَرَأَيْت كَيفَ خبا ضِيَاء النادي
جبل هوى لَو خر فِي الْبَحْر اغتدى *** من وقعه متتابع الازباد
مَا كنت أعلم قبل دفنك فِي الثرى *** أَن الثرى يَعْلُو على الأطواد
بعدا ليومك فِي الزَّمَان فَإِنَّهُ *** أقذى الْعُيُون وفتّ فِي الأعضاد
لَا ينْفد الدمع الَّذِي يبكي بِهِ *** إِن الْقُلُوب لَهُ من الإمداد
كَيفَ انمحى ذَاك الجناب وعطلت *** تِلْكَ الفجاج وضل ذَاك الْهَادِي
طاحت بِتِلْكَ المكرمات طوائح *** وعدت على ذَاك الْجلَال عوادي.
وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي