الشيخ موسى بن الشيخ سيدي باب

 


وإن ذكر العليـم بكـل فـن *** ذكرت الحبر يالك من عليـم
ويذكرنـي سنـاه بكـل نـاد *** إذا اجتمع الرجال سنا الجليـم
إلى مَن في السيادة لا يبـارى *** وأسرع للمكارم مـن ظليـم
سليل الشيخ من غلب البرايـا *** على العلياء والكـرم الكليـم

هو الشيخ موسى بن الشيخ سِيدِيَّ بَابَ بن الشيخ سيد محمد بن الشيخ سِيدِيَّ الكبير ,ولد ضحى الإثنين 10من ذي الحجة , وهو يوم عيد الأضحى عام 1336هـ , الموافق 16 من سبتمبر عام 1918مـ , عند : (( اعْكَـيْلِت الفال مـَحَمْ )) الواقعة على بعد عشرة كيلومترات شمال ((عين السلامة )) والواقعة بنفس المسافة تقريبا شمال مدينة أبي تلميت.
تربى في حضن والديه,  , فدرَّسه أبوه الشيخ سيدي باب هو وإخوته على شيوخ أجلاء, درس القرآن الكريم أولا على العلامة محمد محمود بن اكرامه، ثم بعد ذلك على المقرئ العلامة عبد الودود بن حميه الذي حفظ عليه القرآن الكريم كاملا , وتضلع من علوم القرآن الكريم على يديه, وأتقن علومه.
انكب على دراسة العلم من فقه , وأدب , وتاريخ , وسير … ـ تعلما وتحصيلا, وحفظا واستظهارا.
 حدثني هو بنفسه ـ رحمه الله ـ أنه حفظ في سني عمره المبكرة من أشعار المتقدمين وكتبهم الكثير, فكان يحفظ شعر الشعراء الستة الجاهليين والإسلاميين , والمعلقات , وديوان المتنبي , ومقامات الحريري.
 وكان كثير المطالعة لكتب بعينها كالكامل للمبرد , والعقد الفريد لابن عبد ربه , وحياة الحيوان الكبرى للدميري.
 وأخبرني شقيقه الشيخ سليمان بن الشيخ سيدي باب ـ رحمه الله ـ قال : كان الشيخ موسى يحفظ كتاب : الكامل في التاريخ لابن الأثير تقريبا, وكنا إذا جمعنا مجلس معه أخذنا الجزء من الكامل في التاريخ , عرض علينا من حفظه من غير تصحيف ولا غلط ولا تغيير كل موضوع أردنا بحثه فيه, هذا مع تمكنه في العلوم الشرعية , ومتعلقاتها, ومراجعته الدائمة للكتب المتعلقة بها.
وبدأ قرض الشعر في العقد الثاني من عمره , فكان يقوله بلا تكلف , وقد تميز شعره بالجزالة , ورصانة الأسلوب , وقوة المعنى ووضوحه , وجمال المبنى وحسن سبكه , وعفوية الوصف ورهافة الحس, غير أنه رحمه الله تعالى لم يكن من المكثرين فيه.
كان عابدا , تقيا , ورعا , رقيقا , مجاب الدعوة , دمث الأخلاق , سخيا , كريما , جوادا , حكيما ذا بصيرة ثاقبة , ووجاهة عظيمة , ومهابة جليلة , وكرامات مشهودة.

من أهل الفضل الكامل، والدين، والتصاون، والعفاف، والعقل الجيد مع الوقار، والسمت الحسن، والهدى الصالح, حافظا للقرآن العظيم، مجودا لحروفه, حسن الصوت به، عالي الهمة، طويل الصلاة، كريم النفس، واسع الكف بالصدقات، كثير المعروف والخيرات، مشاركا بجاهه وماله، ‌كثير ‌البر بالناس, باذلا لعطائه، لا يخيّب طالب إحسان منه، ولا يرد سائلا، يلْقَى مَنْ يقْصده بِالْبِرِّ وَالتفَضل,  وله آثار جميلة ظاهرة في ذلك, حيث كان ــ رحمه الله ــ كلما عاد من السفر أمر بفتح الصناديق, فأقبل ‌يحفن منها حفنة بعد حفنة ويفرقها على الحاضرين, ويرسل ما بقي منها إلى ذوي الرحم والمحتاجين, حتى عرف ب:( بوكمشه ), وكان يعطي عطاء ‌من ‌لا ‌يخشى ‌فاقة، وعلى خلق رفيع في الكرم والايثار، ‌لا ‌يبقي ‌لنفسه قليلاً ولا كثيرا.

وكان شيخ وقته حالاً وعلماً، متمكن البيان، جليل الحلم، واسع العلم، محمود الخلائق، مكفوف البوائق، محتوم المساعدة، نبيل المداخل، طيب الأخلاق، صحيح الحدس، مضمون العون، كامل الصون، مبذول النصيحة، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، عفيف الطباع.

وأحد الموصوفِين بالعقل، وَالمذكورين بالفضل، وكَانَت داره مألفا للضيوف والغرباء والفقراء والمحتاجين، ومقصدا لأهل العلم والاستزادة والاستفادة.

كما كان له الدور الفعال والأثر الكبير في فك أسْر الكثيرين ممن كانوا يواجهون أحكاما قاسية في عهود الاستعمار , مع ما تحمله في سبيل ذلك من المشاق وتجشم الصعاب , كما فك رقاب العديد من الموريتانيين من مقصلة الإعدام , اشتهر وعرف عنه سعيه الدائم وعمله الدءوب من أجل تحقيق ما فيه المصلحة العامة للعباد والبلاد , مهما كلفه ذلك من ثمن , واستطاع إحداث نقلة نوعية في مفهوم العلاقات الروحية بين الشيخ وأتباعه من طلبة علم , وطلاب تربية , فاهتم كثيرا بإعطائهم النموذج الحسن من خلال أسلوبه المتوازن , تأسيا بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام , فكان يسافر إليهم ليطمئن على صدق التزامهم , وحسن تطبيقهم لما تلقوه من علم وتربية , ووهبه الله سبحانه وتعالى على إثر ذالك من القبول , وذيوع الصيت حتى بلغت شهرته مناطق عديدة من دول العالم . وكان كلما وسع الله عليه في الرزق يؤثر ذوي الحاجات , والعجزة , والمساكين , والغرباء.عاد إلى وطنه في فبراير سنة 1995م , قادما من فرنسا ليستقر به المقام في أبي تلميت.
بويع خليفة عاما لأهل الشيخ سيدي بعد وفاة أخيه الشيخ يوسف ولد الشيخ سيدي باب ـ رحمه الله تعالى ـ ومدحه شعراء الفصحى , كما مدحه شعراء العامية.
يقول فيه أبوبكر ولد محفوظ ولد بدَّ:
نرحب بالفتى المفضال موسى *** ونفـرح طيبيـن لـه نفوسـا
ونهدي نحو حضرتـه تحايـا *** كصيِّب طبْعه تفني الطروسـا
هو البحر الغطمطم والورى *** لن يزالوا خاضعين لـه رؤوسـا
سلالة (باب) من سنَّ المعالـي *** ومن أحيا المدارس والدروسـا
وذاد الجهـل والبأسـاء عنـا *** وكنا نشتكـي جهـلا وبوسـا
فأصبح طالع الأزمـان سعـدا *** وكان الطالعون بهـا نحوسـا
ألا يا نجـل أقمـار الدياجـي *** وشمس مفاخر تخفي الشموسا
لديك المجـد أجمعـه تناهَـى *** وأنت الشمس لم تخش الطموسا
فعش متمتعـا بالفخـر مـأْوَى *** ركابِ المدح فالعنوان:موسـى.
وقال فيه محمد سيدين ولد الشيخ حمد :
لدَى ظلِّ العباد فقف وحـيِّ *** تحايـا بالغـدو وبالعشـيِّ
كليـمُ اللهِ وارثـه بـإسـمٍ *** كما قد كان في حق الولـيِّ
وأضمر للحوائج حيث كانت *** فتقض بالخفـيِّ وبالجلـيِّ.

وقال فيه الشيخ عبد الله ولد سيد محمد(الراجل) ولد الداه ولد داداه ـ رحمهم الله ـ:
سلام من أخـي قلـب كليـم *** لنأي الحِب والشـوق الأليـم
يهيج له التذكـر كـل شـيء *** وكم جـر الصبابـة للحليـم
فإن ذكر الكرام ذوو المزايـا *** ذكرت الخل ذا العرض السليم
وإن ذكر الملوم علـى سفـاه *** ذكرت المرتضى غير المليـم
وإن ذكر العليـم بكـل فـن *** ذكرت الحبر يالك من عليـم
ويذكرنـي سنـاه بكـل نـاد *** إذا اجتمع الرجال سنا الجليـم
إلى مَن في السيادة لا يبـارى *** وأسرع للمكارم مـن ظليـم
سليل الشيخ من غلب البرايـا *** على العلياء والكـرم الكليـم
وذكر الشيخ هارون ولد الشيخ سيدي باب في كتابه (( الكلام على أهل داداه )) أن الشيخ عبد الله أرسل هذه القطعة إلى الشيخ موسى ضمن رسالة يخبره فيها بوفاة محمد المصطفى بن الشيخ أحمد بنب في السنغال , وأنها كتبت بتاريخ الجمعة 3 شعبان 1364هـ الموافق 13 يوليه 1945مـ .

ومن مزاحات الشيخ عبد الله الشعرية ما كان خاطب به الشيخ موسى لما تزوج عائشة بنت الشيخ سيدي محمد ( بده ) بن الشيخ سيد المختار :
يا راكبا يقطـع البيـد السباريتـا *** لا يختشي من ركوب الهول خريتا
أبلغ بذي الرسل ندبا ماجدا ندسـا *** تحية عن سـواه تصـرف الليتـا
وقـل لـه ولقـد ألفيـت ذا أدب *** يبدي الجواب لدى السؤال ياقوتـا
أعطاك ربك ما ترجوه من أمـل *** ونلت فوق الذي ترجـو وماشيتـا
فهل غدوت بحال الحمد متصفـا *** أم قد غدوت بحال الصبر منعوتـا

وكان الشيخ عبد الله متزوجا بميمونة بنت الشيخ سيد المختار ثم فارقها بعذر وتزوج أختها أم كلثوم .
فقال الشيخ موسى مجيبا له عن أبياته الخمسة :
تحيـة تقتضـي للفضـل تثبيـتـا *** إلى الذي حاز من عليائـه صيتـا
ومن تنـزل مـن أختيـن منزلـة *** فصار ذالك بعـد المنـع منعوتـا
ألفيت منك سؤالا فـاق فـي أدب *** مستدعيـا لجـواب فـاق ياقوتـا
إن كنت تسأل عن وصف المهاة لنا *** فشيت فيها من الأوصاف ماشيتـا.

قال الشيخ هارون وبلغني أن الشيخ عبد الله أعجبه هذا الجواب واعترف بذالك .
وكثيرا ما كنت أسمع الشيخ موسى ـ رحمه الله ـ يتمثل بهذه الأبيات :
يا من يرى مد البعوض جناحهـا *** في ظلمة الليـل البهيـم الأليـل
و يرى مناط عروقها في نحرهـا *** والمخ من تلـك العظـام النحـل
و يرى خرير الدم فـي أوداجهـا *** متنقلا من مفصـل فـي مفصـل
و يرى وصول غذى الجنين ببطنها *** في ظلمة الأحشـا بغيـر تمقـل
و يرى مكان الوطء من أقدامهـا *** في سيرها و حثيثهـا المستعجـل
و يرى و يسمع حس ما هو دونها *** في قـاع بحـر مظلـم متهـول
أمنن علـي بتوبـة تمحـو بهـا ما *** كان مني فـي الزمـان الأول.

وقال الشيخ موسى مجيبا على أبيات كان قد بعثها إليه تلميذه حسن جاب :
رأيت خطابكم ضمن الكتاب *** فرحنا بالكتاب وبالخطـاب
فلا عجب لحلم قبل شيـب *** فإن الحلم يدرك في الشباب
فنلت الفوز فيمـا تبتغيـه *** وصاحبك النجاح بكل باب
ووفقك الإله إلـى رضـاه *** أيا حسن بن عبد الله جـاب.


زار الشيخ موسى ولد الشيخ سيدي باب - رحمه الله - مدينة باريس منتصف عام ١٩٩٢م ، وقد تعوَّد أن يكون المذياع رفيقه حيثما كان ، يتابع الأخبار والمستجدات إقليميا وعالميا ، وقد أثارت انتباهه إذاعة الشرق التي تبث من باريس ، وأعجبته أيما إعجاب بنشراتها الإخبارية وبرامجها الأدبية والثقافية.

 والأهم من كل ذلك ما كانت تنقله مباشرة من الأذان لمعرفة أوقات الصلوات الخمس ، في مدينة يصعب فيها معرفة أوقات الفرائض ، حيث يمنع القانون من الأذان عبر مكبرات الصوت ، وبهذا السبب ازدادت أهمية إذاعة الشرق عنده, فقال مشيدا بها ومنوها بخدماتها : 

أضاءٓتْ لنا الآفاقَ في ضِمْن ما تُلقي *** من النشر والإعلام مجموعةُ الشرقِ

فهي كتابٌ نستفيد بفتـــــــــحه *** فنونا وآدابا فيا نِعْـمٓ ما تُلـــــقي .


ومن رقيق شعر الشيخ موسى ما وجدت له :
وظبي لا يقيـم بغيـر نـاد ولكـن حسنـه للعيـن بـاد
يريـك دنـوه والبعـد منـه كما ينمى إلى الخيل الجيـاد
فلا تبحث لساحرة بطـرف عنَ اصل من بياض أو سواد
ففي صدف يتيمات اللئالـي ومن كل البلاد ذكـي نـاد.

ومن كراماته ما ذكره الدكتور الفاضل محمد المختار بن اباه في كتابه: رحلتي مع الحياة قال: ومن المواقف الغريبة التي مازلت أذكرها، لإحدى زياراتي اللاحقة لبوتلميت أن الجمل الذي أتيت على راحلته ابتعد عن المكان الذي تركته فيه، ولم أستطع أن أقتفي أثره، وبقيت أبحث عنه دون أدنى علامة تدلني عليه، وبينما أنا على هذا الحال، رأيت خياما قريبة فقصدتها لأسأل أهلها إن كان أحدهم رأى الجمل، فوجدت في إحدی الخيام الشيخ الجليل موسی ولد باب ولد الشيخ سيدي، فرحب بي أيما ترحيب لما عرفني، وقد اشتهرت في المنطقة وفي البلاد كذلك علاقة والدي بوالده، التي امتدت إلى الأسرة كلها ونعتز بها و نحرص على الحفاظ عليها.

سألني عن أمري وشرحته له، فقال لي اجلس وحاجتك مقضية بإذن الله، وبینما نحن نتداول تاريخ هذه العلاقة وأسسها العلمية والاجتماعية القوية إذا بالجمل الذي أبحث عنه يمر أمام الخيمة وكأنه هو الذي يبحث عنا ولسنا نحن من يبحث عنه، والله على كل شيء قدير. اهـ.
وله ديوان شعر جمعته وحققته ,لم يطبع بعد .

ووجدت بخطه قصيدة أحمد محمد المجلسي رحمه الله:
توفي رحمه الله تعالى سحر الجمعة 4 من ذي الحجة سنة 1428هـ الموافق 14 دجنبر سنة 2007م , عن عمر ناهز التسعين .
رحمه الله رحمة واسعة , وأسكنه فسيح جناته .
ورثاه الكثير من الشعراء , من بينهم العلامة محمد سالم ولد عدود الذي قال :

أذكى الأسَى في القلب مظعنُ آخر *** نجلٍ لشيخِ الحـق بـابَ مباشـر
موسـى الكليـم بِلامـه وبِرائـه *** طودِ المفاخر والعبـاب الزاخـر
لكنـه أبقـى لنـا خلـفـا بــه *** نسلو ونفقـأ عيـن كـل مفاخـر
أنجالَـه وفـروعَ آبــاء لــه *** ورثوا المفاخر كابرا عـن كابـر
فالله يلحقـه بمـن نهجـوا لــه *** سبل السلام من الرعيـل الغابـر
كرما ويلحفـه ملابـس سنـدس *** تزهو بخضرتهـا لعيـن الناظـر
حُسنـا ويحفـظ آلـه ويحوطهـم *** بالنصر منه ومَن لهم من ناصـر
يا أهل هـذا البيـت أيدينـا إلـى *** أيديــــــكم فـي وجـه كـل مكاثـر
إنـا بتسويـد الــذي سـودتـم *** بِـرا وتقـديــــــرا لأول فـاخـر.


وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
والحمد لله أوَّلا وآخرا .

وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي