الشيخ هارون بن الشيخ سيدي باب


العلامة الأريب والقاضي اللبيب مؤرخ عصره وقاضي وقته الشيخ هارون بن الشيخ سيدي باب 

ولد سنة 1919م , نشأ وتربى وتعلم في وسط علمي متميز بدءا بوالديه ومرورا بإخوته وانتهاء بأكابر علماء عصره .

درس القرآن الكريم على العلامة محمد سالم بن اكرامه المجلسي، ثم أخذ الإجازة على العلامة عبد الودود بن حميه، كما درس المتون الفقهية وغيرها من المتون الأخرى على العلامة الشيخ سيدي محمد بن الداه بن داداه والشيخ محمد عبد الله بن أحمذي الحسني والعلامة الشيخ محمد عال بن عبد الودود المباركي.    

منذ نعومة أظفاره تميز بملكة حفظ نادرة، وحينما شب عن الطوق كان حافظاً للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، فضلاً عن كونه خبيراً بأيام المجتمع ووقائعه وأنسابه، ليشق طريقه كأحد أهم المؤرخين في مسيرة البلاد العلمية.

ولي القضاء في البلاد مدة، وكان في مدة ولايته صارما عادلا حاكما بالشريعة المطهرة، جاريا على طريقة السلف في عفته وصيانته وعدم الالتفات إلى الأكابر في الشفاعات في الأحكام، كما كانت أحكامه وأقضيته تتَّصف بالعدل وتدلُّ على رصانة عقله وحدة ذكائه وفطنته.

إلى جانب القضاء، عمل الشيخ هارون في سلك التعليم فقدم النموذج الأمثل في المثابرة والتربية وحسن الأداء.

كان إماماً إخبارياً، مُتقِناً، محررا، قاضيا لبيبا ثبتا، موفقا في أحكامه، عادلا في قضائه، غلبت صفة المؤرخ عليه حتى كادت تحجب ما سواها، العلامة الجليل، والنزيه النبيل، ذو العفة والصيانة، والديانة والأمانة، والمزايا العديدة، والتآليف المفيدة.

 كان منزله مأوىً للدارسين وطلبةِ العِلم، ومرجعاً للباحثين عن تاريخ البلاد وقضايا العلم والمعرفة.

حلو الشمائل، منفقا سخيا، اشتهر بالكرم والإيثار، وحب الخير للناس، لم يتوان قط عن السعي في المصالح العامة، ولم يتأخر عن إنقاذ أي ملهوف، بل كان سباقا إلى كل مكرمة ومعروف.   

جاب الشيخ هارون مناطق عديدة من البلاد باحثا ومحققا ولم يثنه عن تحقيق هدفه والوصول إلى مراده أي شغل آخر، رغم العوائق الكبيرة. فبعد انتهاء جولته عادَ وانقطع للنظر والتصنيف. 

ولا يجب أن يخلو ذكر لهذا الشيخ من إشارة إلى سيرته العطرة التي تُذكِّر بسير أعلام سلف الأمة في العلم والعمل والمثابرة والجد والتحرير والتأليف، مع نباهة علمية تجمع اتِّقَادَ الذهن وحضور البديهة وثراء المعرفة.

إذ لولاه لما وصل إلينا الكثير من أخبار وتاريخ البلاد ولما ميز بين الصحيح والسقيم منها.

ألف تصانيف كثيرة واستنسخ العديد من المخطوطات النادرة، كما أسس مكتبة قل نظيرها، ضمت بين رفوفها كتبا يتيمة، لا وجود لمثلها في مكتبات أخرى.

من تصانيفه الشهيرة: كتاب الأخبار:


لم يكن الشيخ هارون في كتابه (الأخبار) ناقل أخبار أو مسجل أحداث فحسب، وإنما كان محللا ممتازا وناقدا بصيرا؛ حيث حرص على تعليل بعض الظواهر التاريخية والاجتماعية وعرض أحداثا ومناسبات ناقشها بدقة ودراية ... وتجد لديه منهجية يسوق من خلالها الأحداث بترتيب وتسلسل مع أسلوب رائق وشيق , لا تكاد تقف على مثله في مؤلفات هذه البلاد, وكل موضوع يشبعه بحثا وتحليلا وتدقيقا، كما كان غاية في الأمانة العلمية والثقة في النقل, وهو ما جعل شخصيته التاريخية واضحة تماما في كتابه على الدوام.
وقد ظهر جلياً مدى براعته في مجال عرض الحقائق، إذ تجاهل التفاصيل التي لا حاجة لها، بالتزامن مع فحصه للمصادر، كما اختار من النصوص ما يناسب الحقائق.

وقد وقفت له على مؤلفات ورسائل تدل على سعة اطلاعه وطول باعه في العلوم كلها، وكان خطه أجمل خط رأيته.

 اطلعت على نسخة من متن الأخضري كتبها لأخته سودة رحمهما الله تعالى بخطه , وختمها بهذه الأبيات :

كتبت وقد أيقنت لا شك أنني *** ستفنى يدي يوما ويبقى كتابها

‏وأيقنت أن الله سائلها غدا *** فيا ليت شعري ما يكون جوابها

‏فإما نعيم في الجنان مخلد *** وإما جحيم لا يُطاق عذابها.

 

توفي الشيخ هارون بن الشيخ سيدي باب يوم 10 مارس سنة 1977م , ودفن بالبعلاتية

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته .

 

قال العلامة الشيخ سيدي بن الشيخ عبد الرحمن ( الحكومة ) رحمهما الله تعالى:

كيف التجلدُ والتجلدُ نازح *** ودموعُ أنوارِ العلوم سوافحُ 

جرَّاءَ رُزْءٍ بعده عزَّ العَزا *** فالكائنات جميعهن نوائحُ

خطبٌ به ركنُ الشريعة واهنٌ *** وَوُجوهُ غُرِّ المكرماتِ كوالح 

رُزْءُ المرزِّ إذِ السماحةِ والندى *** فَلِرُزئه كلُّ المكارمِ نازحُ

غوثِ اليتامى في السنين ومَن به *** سبلُ الهدى بعد العفاءِ لوائحُ

هارونُ مصباحُ الحقيقةِ والهدى *** والليثُ إن ضلَّ الحقيقةَ جامح

طلْقُ المُحيَّا واليدينِ سميْذَعٌ *** عن ذي الجهالة والتجاهلِ صافح

فكَّاكُ أغلالِ العُناةِ ذوي العَنا *** بالمَكرُماتِ مُباكرٌ ومُراوِحُ

شَرِسٌ على الأعداءِ إلا أنه *** للجارِ مُنخفضُ الجناحِ مُسامح

قد سار فوق قَويمِ نهجٍ سنَّه *** سلَفٌ على كلِّ السَّراةِ جحاجحُ

فحوى من الأشياخ كلَّ مَزِيَّةٍ *** فبُروقُه مما حواهُ لَوامِحُ

فلْيبْكِه النُّورُ المُنيرُ تَلَهُّفًا *** إن لم يُكافحْ عن حِماهُ مُكافِح

ولْتبْكِهِ الأضيافُ إن مُّنِعَ الحَيا *** واجْتاحَتِ المالَ التَّليدَ جوائحُ

ولْيبْكهِ التاريخُ إن أعْيى النُّهى *** وأُنيطَ بالحسبِ الهجينِ الناصحُ

ولْتبْكهِ الجيرانُ إن ضِيمَتْ ولم *** يجْنَحْ لها عند الشدائدِ جانِحُ

فلئن بكتْ من فقْدِه سُنَنُ الهدى *** وأباحَ حُرْمتها العَدُوُّ الكاشحُ

فَلَكم حمَيْتَ سبيلها جهرا كما *** يَحْمي حلائلَه الكَمِيُّ الرَّامِحُ

أو كلَّ عن إحصا مآثِرِكَ الرِّثا  *** فَلَقَبلُ لم يبْلُغْ مَقامَك مادِحُ

فجزاك ربُّك عن هُداهُ جِنانَه *** وسَقَتْك من عفْوِ الإلهِ رَوائِحُ

وأثابَ الإخوَةَ والبنينَ بصبْرِهم *** مَن هُم لأبوابِ الرَّشادِ مَفاتِحُ

وبقِيتَ في دار البقاءِ مُكرَّما *** وبَقُوا وهم للمُهتدين مصابح

وأدامَ عزَّهُمُ العزيزُ وصيتَهم *** ما لاحَ من دُرَرِ الكواكبِ لائحُ

ثم الصلاةُ على الأمين وآله *** مادام نَهجٌ للموارِدِ واضِحُ .

 

وصلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه 

والحمد لله أولا وآخرا 

كتب الترجمة : إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي