الشيخ يعقوب بن الشيخ سيدي باب


الولى الكبير والعارف الشهير, صاحب الكرامات المأثورة في الأقطار, والمقامات العالية المقدار, المشهور بالصلاح الكامل, عند كل عالم وجاهل, مَن ظهر فضله في الأنام, حتى أقرَّ له بالولاية الخاص والعام , قطب دهره، أعجوبة عصره : الشيخ يعقوب بن الشيخ سيدي باب ولد سنة 1908م , كان ميلاده بشارة كبرى ومنة عظمى عمت البرية, ففرح والده فرحا كبيرا أزاح عنه الكثير مما كان يثقل كاهله من الهم الذي كان يشغله ذلك الوقت من أمور البلاد ( تباين الآراء , اختلاف وجهات النظر , ظهور تيارات ....).

تربى الشيخ يعقوب في حضن والديه ونهل من معينهما تنشئة وتربية وأخلاقا وسلوكا , فكانت والدته رملة بنت الحسن له معلمة ومربية ومؤدبة, ولما أدرك وصار يميز بين الحيّ واللّيْ , أخذته وسلمته إلى أخيها العلامة محمد محمود بن الحسن فدرسه القرآن الكريم فأحسن تعليمه ولازمه مدة, لينتقل بعد ذلك إلى الشيخ العلامة عبد الودود بن حميه حيث عكف على تعليمه القرآن الكريم والمتون إلى أن أجازه .

ذو الأفعال المحمودة والفضائل المشهودة والمآثر الفاخرة والمفاخر الظاهرة مجبولا على المعروف والإحسان ، كان منزله مقصدا للمحتاجين والفقراء والمساكين والطامعين وملجئا للغرباء واليتامى, وكان ينفق في كل يوم ما لايحصى ، ويعطي كل واحد ما قدره الله له ، ولا يرد أبدا سائلا لِما جبلت عليه نفسه من فعل الخيرات ، ولو تعرض له السائل مرارا.

وتؤثر عنه العجائب من الكرامات وخوارق العادات, من شفاء للمرضى على يديه بإذن الله, كالذي وقع مع الآمريكية التي رأت في المنام أنه يداويها فلما وصلت إليه شفيت بإذن الله تعالى, وكقصته مع السمكة التي شق بطنها وأخرج منه كيسا فيه مبلغ من المال, وقال إن أحدا نوى له تلك الهدية , وكأخذه لشاة من قطيع غنم وتبين بعد ذلك أنها أهديت له سابقا.... إلى غير ذلك مما حباه الله تعالى به من الكرامات والمكاشفات الكثيرة المعروفة والمتداولة بين الناس.      

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطيةوَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، وَكَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الْأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الْأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِانتهى.

وقال الطحاوي رحمه الله في "عقيدته" (ص84) : " ونؤمن بما جاء من كراماتهم ، وصح عن الثقات من رواياتهم " انتهى .

كان الشيخ يعقوب عابدا , تقيا , ورعا ,زاهدا , رقيقا , مجاب الدعوة , دمث الأخلاق , سخيا , كريما , جوادا , حكيما ذا بصيرة ثاقبة , ووجاهة عظيمة , ومهابة جليلة , وكرامات مشهودة .

شهد له القاصي والداني بالورع والزهد والتواضع والعزوف عن الدنيا وبهرجتها , والسعي في مصالح العباد والبلاد ,كان سخيا كثير الإنفاق, حليما يماشي ويجالس الضعفاء والفقراء, ويواسي الأرامل واليتامى .


استوطن منطقة شمامة واستقر بها مدة طويلة من الزمن وخاصة بتمبصكيت التي حفر بها بئرا اعتبرت أول بئر في تلك الناحية, وتارة يمكث مدة من الزمن عند لكصيبة أو لكات وكذلك مدينة بودور السنغالية, إلى أن بويع له بخلافة أهل الشيخ سيديا بعد وفاة أخيه الشيخ إسماعيل بن الشيخ سيدي باب سنة 1988م, فانتقل إلى بتلميت ثم إلى انواكشوط , حيث استقر أخيرا.

اشتهر ذكره وذاع صيته وكثر أتباعه ومحبوه ومريدوه في كل أنحاء العالم من بينهم رؤساء وزعماء وقادة كبار, وكانت الوفود والشخصيات البارزة تفد إليه من كل أصقاع المعمورة التماسا للدعاء .

 سافر مرات إلى الدول المجاورة , وفي كل مرة  كان يستقبل استقبال الملوك والعظماء , وبعد عودته يوزع على ذوي القربى واليتامى والمساكين والمحتاجين ما منَّ الله عليه به من الخيرات, وما وسع عليه من الأرزاق , كان هذا طبعه وديدنه إلى أن لقي الله عز وجل. 

كان بشوشا تعلوه مهابة كبيرة , لم يؤثر عنه أبدا أنه اغتاب أحدا أو ادعى حقا لأحد ,أو أخذ ما ليس له , كان جل وقته ذكر الله , أو الصمت .

 Audio .ogg

وفي سنة 1989م وقعت أحداث أليمة بين موريتانيا والسنغال , والشيخ يعقوب إذ ذاك في السنغال فتحمل الأعباء الكبيرة والمشاق الكثيرة من أجل إنقاذ الأرواح البريئة من الموت المحقق , وأوصل الكثير من الموريتانيين إلى أرضهم بسلام , كما حمى من جهة أخرى السنغاليين الموجودين في الضفة الموريتانية وأنفق عليهم ورتب لهم ظروف العيش بسلام وأمان .


في بدايات سنة 2002م سافر الشيخ يعقوب إلى السنغال لغرض العلاج , لكن الأجل وافاه هناك, فتوفي يوم 13 نفمبر سنة 2002م عن عمر ناهز 94 , ونقل إلى بتلميت فدفن بالبعلاتية , رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته .

يقول العلامة الشيخ محمد سالم ولد عدود فى رثائه:

عظُم المُصابُ عنِ الرِّثاء فأَفزَعا *** ونفوسُ أهلِ مُصابنا أن تَجْزَعا

إن الرزِيَّةَ لا رزيَّةَ مثلُها *** يعقوبُ إذ زَمَّ الرِّكابَ فوَدَّعَا

صُنتُ الدموعَ حِذارَ غِبْطةِ شامتٍ *** فجَريْنَ رَغم الصون مَربَعَ مَربعَا

فاقْنَ الحَياءَ وصُنْ وقارَك وانتظر *** ما جِلَّةُ الأشياخِ تَصنَعُ فاصنَعَا

ودعِ الرِّثاءَ فلو خُلِقتَ مُتَمِّمًا *** أعياكَ ما فى الشيخ كان تَجَمَّعَا

لاتخش ضــيعــة إرثه ما إرث من *** خــلــفــتــه آساد الرجال مضيعا
بنيان قوم لو سواهم نال من *** بــنــــيانه ما نــــال مــنه تلــعــلــعا
ماذا تقول وما تخالك بالغا *** بالقول لو أنـــفـــدت فـــكــــرك أجمعا
لو كنت فى عصر الشبيبة لم تطق*** أنى وقد أصبحت أشيب أصلعا
لاتخش سحب بساط آل الشيخ ما *** مسعاهم فينا لأول من سعى
وتعزّ بالأحياء منهم واحتسب *** وأدع الذى ما إن يـــخــيــب من دعا

أن يرحموا أن يكرموا أن ينصروا *** أن يــحفـظوا أن لايـــزالوا مـــفــــزعا


ويقول فيه محمدن ولد محمد الحافظ:

فالأرضُ يحسُد وجهُها البطنَ الذى *** فيه إمامُ الصالحين نَزيلُ..

قطبُ الوَلايةِ والسيادةِ، دأبُهُ *** الذكرُ والتسبيحُ والتهليلُ

البَذْلُ دَيْدَنُهُ ومنفعةُ العبا ***  دِ له سبيلٌ سالكٌ وطويلُ

ما مال فى الدنيا إلى عَرَضٍ وليْـــــــس عن الصراط المستقيمِ يَميلُ..


ويقول المختار بن محمدَا فى رثائه أيضا:

فعاشَ مكرَّمًا وقضى حياةً *** تجَنّبَ عَبْرَها عارًا وعابَا

أقام بها الصلاةَ وقام قَرًّا *** وصام الحَرَّ لله احتسابَا

سلِ الأضيافَ والزُّوَّارَ عنهُ *** سلِ النَّادى إذا ما الأمرُ نابا

سلِ الجيرانَ والأرحامَ واسألْ *** بنى غَبراءَ إن رمتَ الجوابا...

ويقول فيه الشاعر لمرابط ولد محمد سالم:

إن أطفالًا يتامى *** وجدوا فى الشيخ آبَا

وثَكالى وأيامَى *** عانَوُا الأمرَ العُجابا

وجدوا فيه لباسًا *** وطعامًا وشرابَا

كان يعقوبُ رحيمًا *** لانَ للناسِ جَنابَا

ولقد كان جوادًا *** يُعجِزُ البحرَ العُبابَا

وكريمًا مِن كريمٍ *** سيدًا لُبًّا لُبَابَا...

سوف يبقى الشيخ ذكرًا *** وحديثًا مستطابا

فوداعًا وأمانًا *** ونعيمًا وثَوابَا

ومعانى الفضلِ تَبقَى *** فيكمُ يا آل بابا.


ويقول الأخ الفاضل إبراهيم بن موسى بن الشيخ سيدي في رثائه:

نَزَلَتْ عَليكَ مِنَ الرَّحِيمِ الْبَارِي....رَحَمَاتُهُ يَا قُدْوَةَ الْأَبْرَارِ

وَلَحِقْتَ رَكْبَ الصَّالِحِينَ وَنُخْبَةً....مَغْبُوطَةً مِنْ أُمَّةِ الْمُخْتَارِ

وَلَقِيتَ رَبَّكَ رَاضِيًا سُبْحَانَهُ....عَنْ عُمْرِكَ الْمَعْمُورِ بِالْأَذْكَارِ

وَوَجَدتَّ قَبْرَكَ رَوْضَةً غَنَّاءَ مِن....رَوْضَاتِ عَدْنٍ سَاطِعَ الْأَنْوَارِ

فُرِجَتْ إِلَى الْفِرْدَوْسِ مِنْهُ فُرْجَةٌ....لِتَرَى مَقَامَكَ يَا نَزِيلَ الْبَارِي

يَعْقُوبُ قَدْ خَلَّفْتَ بَعْدَكَ أمَّةً....تَبْكِيكَ صَادِقَةً مَدَى الْأَعْمَارِ

كُنتَ الْمَلَاذَ لَهُمْ وَكُنتَ مَعَاذَهُمْ....وَكَفَيْتَهُمْ شَرَّ الزَّمَانِ السَّارِي

رَحُبَتْ صُدُورُهُمُ وَأَنتَ بِقُرْبِهِمْ....لَا يَخْتَشُونَ حُدُوثَ إِمْرٍ طَارِي

أَلِفُوكَ مَلْجَأَهُمْ وَبَيْتَ رَجَائِهِمْ....وَالْمَرْءُ يَأْلَفُ كُلَّ أَمْرٍ جَارِ

فَلِذَاكَ إِنْ يَبْكُوا فَحَقَّ بُكَاؤُهُمْ....مَا عَابَهُمْ فِي ذَاكَ شَخْصٌ دَارِ

عَلَّمْتَهُمْ مِنْ خُلْقِكَ السَّامِي دُرُو....سَ الزُّهْدِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِيثَارِ

فَرَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ مَعَانِيَ مُثِّلَتْ....مِن قَبْلُ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ

جَسَّدتَّهَا خُلُقًا وَطَبْعًا صَادِقًا....لَيْسَتْ تُكَدِّرُهُ دُجَى الْأَكْدَارِ

وَفَنَيْتَ فِي اللهِ الْعَظِيمِ مَحَبَّةً....أَفْنَتْ بِقَلْبِكَ عَالَمَ الْأَغَيَارِ

رَاقَبْتَ قَلْبَكَ فِي التَّحَرُّكِ وَالسُّكُو....نِ كَذَاكَ عِندَ تَوَارُدِ الْأَفْكَارِ

مَيَّزْتَ بَيْنَ خَوَاطِرٍ وَوَسَاوِسٍ....وَهَوَى النُّفُوسِ وَنِيَّةِ الْأَخْيَارِ

فَعَمَرْتَ بِالْعَمَلِ الذِي يُرْضِي الْإِلَـــــهَ الْعُمْرَ فِي الْإِعْلَانِ وَالْإِسْرَارِ

لَمْ تَعْتَبِرْ بَيْنَ الْأَنَامِ فَوَارِقًا....عِندَ اللِّقَا خَوْفًا مِنَ الْجَبَّارِ

مُتَوَاضِعًا لِلهِ جَلَّ جَلَالُهُ....كَتَوَاضُعِ الصِّدِّيقِ أوْ عَمَّارِ

وَعَبَدتَّ رَبَّكَ فِي حُدُودِ مَحَجَّةٍ....بَيْضَاءَ قَدْ سَلِمَتْ مِنَ الْإِنكَارِ

وَخَوَارِقُ الْعَادَاتِ لَمْ تَفْتِنكَ فِي....خُلُقٍ وَلَا فِي طَاعَةِ الْغَفَّارِ

وَكَذَلِكَ الدُّنيَا غَدَاةَ أَتَتْكَ رَا....غِمَةً مُسَخَّرَةً مِنَ الْقَهَّارِ

فَاللهُ يُرْضِيهِ وَيَشْكُرُ سَعْيَهُ....وَيَعُدُّهُ مِن نُخْبَةِ الْأَبْرَارِ

وَيُطِيلُ عُمْرَ الصَّالِحَيْنِ كِلَيْهِمَا....مُوسَى وَيُوسُفَ لِلْوَرَى الْمُحْتَارِ

وَيَمُنُّ بِالْفَضْلِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمَا....وَعَلَى اللَّذَيْنِ هُمَا مِنَ الْأخيَارِ

نَجْلَيْهِ بَابَ وَيُوسُفٍ وَجَمِيعِ مَن....نُسِبُوا إلَيْهِ إلَى لِقَاءِ الْبَارِي.


كتب الترجمة : إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي