ازدانت الساحة الثقافية في موريتانيا بصدور ديوان الشيخ سيديا الكبير بجمع وتحقيق حفيده عبد الله بن اسماعيل بن أبي مدين، وجاء الكتابة في طبعة مقبولة، جاءت في 3006موزعة على 272 صفحة من الورق المتوسط وبطباعة  مشكولة مقبولة قليلة الأخطاء إلى أقصى درجة، وقد طبع الكتاب على نفقه حفيد الشيخ الوزير السابق عبد الله ولد سليمان ولد الشيخ سيديا.
ويأتي هذا الكتاب ليسد ثغرة قوية في المكتبة الشعرية في موريتانيا كما يأتي أيضا ليعرف بعلم من كبار أعلام العلم والإصلاح والتربية في موريتانيا.
وقد قدم للديوان الإداري والأديب المعروف، محمد فال ولد عبد اللطيف واستعرض في ثنايا تقديمه ما رآه عوامل أبعدت شعر الشيخ سيديا عن متناول الناس وأبرزها- طبيعة الأغراض التي خصص لها الشيخ سيديا جل شعره، فهي أغراض نخبوية، وقورة من مدح للأشياخ وتضرع إلى الله ونصح للإخوان والمريدين واستمطار للسماء أيام المحل والجفاف.- الوقار والهيبة الذي طبع شعر الشيخ سيديا ومرد ذلك وفق تعبيره، أن لهذا الشعر نصيبا من شدة الوحي تناغما من نصيب الأولياء من الأنبياء.- نخبوية شعر الشيخ سيديا، وابتعاده عن متناول عامة المستهلكين، إذ يحيل إلى علوم ذوقية وإشارات ورموز تحتاج ثقافة علمية لاجتلاء تلك الغوامض.
ويشيد ابن عبد اللطيف بعمل ابن أبي مدين ويعتبر أنه حقق العلمية والمنهجية المطلوبة في دراسة هذا الديوان الجليل.
في التعريف بالشيخ سيديا
منح المحقق التعريف بالشيخ سيديا الكبير جزء 15 صفحة، تناولت مكانته ونسبه ومولده، ومساره العلمي والروحي الذي وزعه إلى مراحلتعلم القرآن الكريممرحلة علوم الأدب واللغةمرحلة الفقهمرحلة التربية الروحيةقبل أن يعود إلى ما بعد الدراسة وتأسيس الحضرة والمحظرة السيدية، مستعرضا بعض العلماء والمشايخ الذين نهلوا من رحيق الشيخ وعبوا من سلسال علومه.وفي بعد آخر يتحدث المحقق عن حضور الشيخ سيديا ومكانته السياسية والاجتماعية، قبل أن يعود إلى " كرمه وصلاحه" مستعرضا نماذج من جوده، ومحيلا إلى تأليف مستقل يعده المحقق – كما أكد ذلك – عن كرامات الشيخ سيديا وخوارقهوفي نهاية التعريف يقدم المحقق عرضا ببلوغرافيا بمؤلفات الشيخ سيديا الكبير
بين يدي الديوانخصص المحقق صفحتين لا أكثر تقدمة بين يدي هذا السفر الشعري الضخم، حيث غلبت الصنعة الإحصائية على عمل المحقق والناقد، وتظهر تلك التقدمة انحصار أغراض الديوان فيالمدح – الاستسقاء والدعاء – النصح والتوجيه – الرثاء. فيما توزع الموسيقي الشعرية للديوان على 11 بحراأما الديوان فقد جاء مرتبا على الحروف الأبجدية، وشرح المحقق بعض العبارات الغامضة فيه.

عن الديوان
يمكن الجزم بأن ديوان الشيخ سيديا الكبير هو سفر من النور وموسوعة من التصوف والأديب والإشراق الروحي، يتميز بلغة قاموسية موغلة في الانزياح الصوفي، حيث يمكن القول إن الديوان كثيف جدا، وإذا ما اعتبرنا أن الشعر هو في الأصل رموز وإحالات، وأن التصوف هو إشراقات ودلالات ومصطلحات خاصة بالقوم وسالكي دربهم، فإن اجتماع الصوف والشعر يعني أننا أمام صورة بالغة الكثافة، ينضاف إلى هذا عامل آخر أن اللغة التي استخدمها الشاعر كانت واسعة العطن لتشمل كل الظواهر اللغوية، يعززها في ذلك قدرة هائلة للشاعر الذي كان – آخر من يحفظ التسهيل في هذه البلاد- على الاجتهاد في اللغة وهو ما يتطلب من الباحث والمحقق جهدا بالغ التميز
حقل المصطلحات الصوفية
حفل الديوان بكثير من المصطلحات الصوفية التي تناغمت في جو شعري بهيج، ومن ذلكمصطلحاتالمريد – المريد – الهواجس، الواردات، القوم، الصفاء، الوفاء، الأولياء – الهمة – الضمير – الجنس – العزلة – مغناطيس الصدق – الذكر والحضور – التحلية – التخلية.كما شمل أيضا ما يمكن أن نسميه المخطط الدلالي للترقي الروحي، عبر مقاماته التي تكررت في الديوان أكثر من مرة مثل قولهوما ذلل النفس الجموح كظلفهاعن العاد والحظ الشهي المراقبوذكر حضور بالفؤاد مزاجهلوامح فكر في خطاب المخاطبوجوع وسهد ثم صمت وعزلةيرافقها قصد بعزم مواظبوهمة شيخ جرها لمريدهعلى الكره مغناطيس صدق مصاحب
وتبرز ضمن هذا المسار مركزية الشيخ في الفكر التصوفي عموما وفي الذهنية التربوية لدى الشيخ سيديا، حيث يمثل الأشياخ عالما بالغ القوة والقدرة والتأثير ويخلع عليهم من سني الأوصاف ما يخرجهم به عن عالم البشر إلى فضاءات التسخير والتمكين والتحكم، وهو ما سنعرض له لاحقا في جزء الملاحظات.والشيخ في مدائحه لأشياخه منطرح بباب العجز عن إنقاذ نفسه أو إيصالها لما تسمو إليه من أن تكون " شمراخ قنة" وقد كانت كذلك، مظهر لقدرة الأشياخ وتأثيرهم وإيصالهم المريد إلى أعلى المراتب وسامي الصفاتوقد جاءت النصائح التي حفل بها الديوان ناظمة لمسارين- مسار التوجيه إلى صالح الأعمال والجمع بين العلم والعمل- مسار أخذ النفس بالشدة وأطرها في سلك القوم الواصلين الليل بالنهار سعيا إلى الخلاص من الآصار والأغلال التي تحول بين المريد وجنان الوصول.وعلى نفس المنوال تأتي الاستسقائيات جامعة بين التضرع وإظهار الخوف من الله، وبين الرجاء الذي يرسم لوحتين، لوحة الجدب القاتمة، والخوف وانتشار الإرهاب والتلصص، وبين انفتاح أبواب السماء بالاستجابة وانسكاب الخير، لتتحول الأرض مروجا وأزهارا ورياضا يتناغم فيها الشكر والحمد والأريج والأهازيج.
عن اللغة الشعرية
تبين صفحات الديوان عن تمكن غير محدود للشيخ سيديا من ناصية الضاد، حفظا لألفاظها وقدرة على الاجتهاد فيها، والظاهر أن الشيخ آمن بأن اللغة نهر جار وجسم قابل للبناء والتشكيل، ولذلك حفل الديوان بمختلف الظواهر اللغوية، ويمكن الجزم بأنه أيضا صالح لأن يكون بوابة عمل نحوي وصرفي وقاموسي بديع.كما لم يقطع الشاعر الرحم الموضوعية بين نصوصه الشعرية ومنابعها من قرآن وحديث وشعر وأمثال وحكم، حيث تتناغم إلى حد التضمين كثير من تلك النصوص بين ثنايا الديوانوبالجملة فالديوان ديوان وقور، لم يخل من قصائد بالغة الجمال وقوة في السبك لا تخطئها عين الناقد، وقدرة على التصوير وانزياحات بالغة الجمال، كما يمكن القول بأنه – لو بذل فيه المحقق جهدا أكبر – لأبان عن عوالم كبيرة من التصوير البياني في تشبيهات بالغة الجمال وكنايات واستعارات وفي أبواب متفرقة من البيان والتصوير الفني الجميل.

ملاحظات على العمليستحق الباحث عبد الله بن اسماعيل الشكر والتقدير على عمله في إخراج هذه الدرة الشعرية المهمة، وكأي عمل بشري لا بد أن تظهر بعض النواقص التي يمكن – ويبنغي – تداركها في قابل الطبعات ومن أبرز الملاحظات- في الشكل- خلو واجهة الكتاب من تاريخ النشر ورقم الطبعة ودار النشر، وهي أمور ضرورية.- اللغة التقليدية السجعية التي طبع بها المحقق مقدمته وتعريفه بالشاعر، وهو أسلوب ما عاد مطروقا الآن على كل حال.- لا توجد مراجع ولا مصادر ولا هوامش في الكتاب بل جاء كما لو كان إحدى الأمالي التي يمليها شيخ من ذاكرته على طلابه، والتوثيق أهم أركان التحقيق وبدونه لا يكون التحقيق ولا يستقيم.
أما في المضامينفلعل أكبر نقص يمكن أن يسجل على الديوان، غياب الدراسة الفنية والبلاغية واللغوية للديوان وهو أمر بالغ الأهمية، لا ينبغي إغفاله بل يعتبر إغفاله قتلا للديوان وقتلا لشخصية المحقق وحضورها أمر مطلوبلقد اكتفى المحقق بالإشادة بالديوان وتميزه دون أن يكلف نفسه عناء تحويل تلك الإشادة إلى معطيات وأمثلة ونماذجوبغياب الدراسة الفنية والنقدية للديوان تغيب مطارحات علمية كان وجودها سيثري الديوان ويجعله دوحة علمية وفنية غير مسبوقة، بفعل ثراء هذا الكم الشعري بيانيا ودلاليا وفنيا.
كما غاب الشرح والتعليق الكافي، فقيمة المشروح من ألفاظ الديوان لا يمكن أن تصل 20% مما يحتاج الشرح والتمحيص والمقارنة، وحتى الشروح المذكورة كانت محتاجة هي الأخرى إلى التوثيق ونسبتها إلى مصادرها من قواميس اللغة.غاب توجيه بعض الأبيات المشكلة، وخصوصا المشكلة عقديا والتي تضفي على المشايخ بعدا إلاهيا وتمنحهم قدرات وتسخيرا في الإماتة والإحياء والبعث والتحكم في الكون وكان الأولى توجيهها بما يضمن عدم اصطدامها بذائقة الجيل الذي لم " يسهر سهر الشيخ سيديا ولم يجع جوعه"، أو حذفها نهائيا من الديوان، حيث أن قيمته الفنية ليست كبيرة جدا، وهي في الغالب شذرات ملقاة ضمن مطولات كبيرة.
وإلى جانب تلك الملاحظات لا يمكن إغفال غياب الاستعانة بتراث الشيخ سيديا النثري في دراسة شخصيته، وخصوصا شخصيته الأديبة، فيمكن القول دون مبالغة إن الشيخ سيديا وكذا شيخاه الكنتيين من أكثر أهل هذه البلاد قدرة على الكتابة النثرية وقد طوع اللغة المشرقة والبيان الحريري الجميل.كما غابت دراسة عصر الشيخ سيديا لفهم التحولات والتأثير الذي أحدثه ظهور حضرة ومحظرة هذا القطب الجليل، وهو ما بتر جزء كبيرا من الصورة الكاملة عن تأثير الشيخ سيديا ودوره العلمي.غاب أيضا عن الديوان الحديث عن تأثير حضرة الشيخ واستمرارها وأمدادها الروحية والعلمية، التي لم تنته بوفاة الشيخ سيديا بل تحولت إلى مؤسسات علمية وحضرات صوفية بالغة التأثير إضافة إلى أسرة مستمرة العطاء ومكانة وارفة الظلال.