تداعى الركبان إلى تندوجه في شهر يناير سنة 1856 بدعوةٍ من العلامة الجليل و الصوفي الكبير الشيخ سيديا بن المختار بن هيبه بعدما أحس بخطرين هما:ـ خطر الظُلام الذين يغزون فينهبون و يقتلون.. حتى صارت البلاد سائبة في معظمها..ـ الغزو المسيحي للقطر الشنقيطي.... حيث صار هذا الخطر على الأبواب.. نظرا لأطماع الأوربيين في البلاد..فكان مؤتمرٌ سُميَ باسم البلدة حضرته إمارات ترارزه و لبراكنه و آدرار... و هي الإمارات التي كان لبعضها اتفاقات و معاهدات مع الأوربيين شهدت مدا و جزرا وصل في بعض الأحيان إلى الصدام المُسلح الذي حاول أصحابه ضرب المُستعمر في عقر داره.. كما هو الحال في حرب أمير ترارزه محمد لحبيب المتوفى سنة 1860 ضد الجنرال فيديرب المعروف لدى سكان البلاد ب ( إميسه فدرو).. و هي الحرب المعروفة بحرب العلك...فتمت المُصالحة بين الإمارات التي كانت العلاقات بينها تشهد بعض التصدع، كما تم الاتفاق على التصدي لخطر هذا الغزو و منع الفرنسيين من التغلغل في بلاد الإسلام.. و ذلك وفق خطة رسمها نجل الشيخ سيديا سيدي محمد في قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:

رُويدكَ إنني شبهتُ دارا ـــــــ على أمثالها تقفُ المهارى

تأمل، صاح، هاتيك الروابي ــــ فذاك التِلُ أحسَبُه أنارا

وتان الرملتان هما ذواتا ــــــ عُليانٍ و ذا خطُ الشُقارا

وإن تُنجدْ رأيتَ بلا مثالٍ ــــــ جماهيرَ الكناوين الكبارا
... ثم يخلص إلى إطلاق التحذير بمُنعرج اللوى و استبانة الرشد قبل ضحى الغد.. قائلاً:

حُماةَ الدينِ إن الدين صارا ـــــــ أسيرًا للصوص و للنصارى

فإن بادرتموه تداركــــــــوه ــــــــ و إلا يسبق السيف البدارا

ولكن كيف يُتَداركُ الموقف؟يكون ذلك ب::ـ طلبُ النصرة من المولى عز و جلَـ استنفار جيش عرمرمٍـ استنهاض فتيانٍ صادقي العزم مُخلصين للجهاد ثم يواصل في رسم لوحةٍ سوداء في حال النُكوص عن ذلك الجهاد.. فيقول:
ـ ولَا أعْرِفْ وَسَوْفَ تَرَوْنَ عَمَّا...قَلِيلٍ صُبْحَ لَيْلِكُمُ اسْتَنَارا

ـ مَهًى حُورَ الْمَدَامِعِ عَاطِفَاتٍ ...تَخُوضُ بِهَا الْقَرَاقِيرُ الْبِحارَا
ـ إذَا الْتَفَتَتْ لِجَانِبِهَا تَلَافَتْ ...حِذَارَ الْمَوْجِ لَوْحًا أَوْ دِسَارَا
ـ لَأنْ كَانتْ مَرَاكِبُهَا الْمَهَارَى...وَأنْ كَانَتْ مَرَاوِدُهَا الْقِفَارَا
ـ تُلَطِّمُهَا الْعُلُوجُ عَلَى خُدُودٍ...كَسَا أَلْوَانَهَا الْفَزَعُ اصْفِرَارَا
ـ يُدِرْنَ لَهُمْ عُيُونًا حَائِرَاتٍ...يُغَرِّقُ فَيْضُ عَبْرَتِهَا احْوِرَارَا
ـ فَلَا هُمْ يَرْحَمُونَ لَهَا بُكَاءً...وَلَا يَخْشَوْنَ أن تَجِدَ اقْتِدَارَا
وَحَلَّوْهَا خَلَاخِلَ مِن قُيُودٍ...وَقَدْ كَانَتْ لُجَيْنًا أوْ نُضَارَا
وَأغْلَالًا بِأجْيَادٍ وَأيْدٍ ...تَعَوَّدَتِ الْقِلَادَةَ وَالسِّوَارَا
ـ تُكَلِّفُهَا بَنَاتُ الرُّومِ قَسْرًا...بِخِدْمَتِهَا رَوَاحًا وَابْتِكَارَاـ
ـ وَكَانَتْ كُلَّمَا مَشَتِ الْهُوَيْنَى... لِكِسْرِ الْبَيْتِ تَنبَهِرُ انبِهَارَا
ـ فَيَشْدُدْنَ الْحِبَالَ بِكُلِّ خَصْرٍ...رَقِيقُ الرَّيْطِ كَانَ لَهُ إزَارَا
ـ وَيَحْمِلْنَ الْجُذُوعَ عَلَى رُءُوسٍ...غَدَائِرُهَا تَضِلُّ بِهَا الْمَدَارَى
ـ وَتُكْرَهُ لِلذِي كَانَتْ تَرَاهُ...حَلَالًا وَهِيَ طَائِعَةٌ شَنَارَا...

فهذه القصيدة التي يقال إنها أنشدت في معركة ( الركِبه) بلبراكنه " على بعد حوالي 50 كلم من بوغي على الطريق الرابط بينها و مدينة روصو"، في منتصف سنة 1856 عندما التحم جيش المجاهدين بقيادة محمد ولد سيدي ولد آغريشي بجيش ابن عمه سيد إعلي المدعوم من طرف الفرنسيين...حضرالشيخ سيديا الكبير هذه المعركة إلى جانب ولد آغريشي ..و معه المئات من ذويه و تلامذته و كانت فيها الدائرة على جيش الغزاة.. هذه القصيدة، إذا تذكر في مضمونها بخطبة الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في الجهاد إذ يقول:... هْذَا اخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنبَارَ وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ ابْنِ حَسَّانَ الْبَكْرِىَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا..وَلَقَدْ بَلَغَنِى أَنَّ الرَّجُلَ مَنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا وَرِعَاثَهَا.مَا تَمْتَنع مِنْهُ إلاَ بِاِلاسْتِرْجَاع وَالاِسْتِرْحَامِ ...فهذا النسق من استنهاض الهمم و إلهاب الحماس في نفوس المقاتلين كان كفيلا ببعث روح جديدة لديهم و هو ما جلب النصر لعلي، رضي الله عنه، في معاركه ضد مُعاوية و ضد الخوارج.. و جلب النصر كذلك لمقاتلي ترارزه و لبراكنه ضد الفرنسيين و من دار في فلكهم خلال معركة الركِبه آنفة الذكر..فكان مؤتمر تندوجه تمهيدا لمرحلة جديدة من التكاتف و رص الصفوف ضد الغزو الأجنبي للبلاد و إن إلى حين...

يقول بول مارتي في كتابه ( إمارة ترارزه): " ... و في يناير 1856 عُقد مؤتمرٌ ضخمٌ في بلدة تندوجه تحت رئاسة الشيخ سيديا الكبير، رئيس قبيلة أولاد أبييري القوية التي تشكل بموقعها المناسب همزة وصل بين ترارزه و لبراكنه و آدرار.. و كانت حنكة الشيخ سيديا، أكبر زعيم في وقته، كفيلة بإسكات الصراعات الداخلية بين هذه القبائل و إن مؤقتا.. فتشكلت جبهة ضد الفرنسين تحت إمرة محمد لحبيب ضمت في صفوفها إلى جانب عصاباته من ترارزه، قواتٍ من لبراكنه و أولاد يحي من عثمان في آدرار..." انتهى كلام بول مارتي..و استمرت تداعيات مؤتمر تندوجة خلال الفترة اللاحقة من حياة الامير محمد لحبيب الذي عمِد إلى محاصرة الفرنسيين بمنع التبادل التجاري معهم .. فكان ذلك الحصار ميدانا حث فيه الشعراء على مقاطعة النصارى.. يقول إجدود بن إكتوشني العلوي:لا تعينوا بالعلك حلف النصارى ـــــ أتعيونون جاهلا كفارا..و في هذا السياق كانت المشاعرة " الخفيفة" بين العلامة محنض باب بن إعبيد الديماني و ابن أخته زعدر.. و هي المشاعرة التي قال فيها العلامة لتلميذه إنها لا تزيد على بيتين بيتين.. و قد نعود لذلك لاحقا...

الباحث/ سيدي محمد متالي