الشيخة الجليلة فاطمه امباركه (الناهه) بنت المختار بن عبد الفتاح رحمهم الله

المنشور اليوم يتعلق بترجمة شخصية كريمة، ‌اتصفت بالجود والحلم والبذل، والفضل والإحسان والنُّبل، وامتازت بخصال فريدة هيأها الله تعالى لها، وحديثي عنها يعتبر غيضاً من فيض، وأرجو أن أوفق لإجلاء صورة الشخصية على حقيقتها، ولا ريب أنها من الأمثلة التي تحتذى، والنماذج التي تقتدى.


لَك فِي المحاسن معجزات جمة *** أبدا لغيرك فِي الورى لم تجمع

                            *******                           

وتصوف وتقشف وتعفف *** وَقِرَاءَة وَعبادَة وَصِيَام 

وعناية وحماية ووقاية *** وصيانة وَأَمَانَة ومقام 

وَلها كرامات ‌سمت وتعددت *** وَلها على مر الدهور دوَام 

هي الشيخة الجليلة والوالدة الفاضلة فاطمه امباركه (الناهه) بنت المختار بن عبد الفتاح بن عبد الله بن اشفغ نلل بن عبد الله بن أحمد بن الفالل بن امرابط مكة بن ابيير، أمها مريم السالمة الملقبة مينّه بنت سيد أحمد بن سيد بن عبد الله بن اشفغ نلل. 

‌ولدت سنة 1863م، عند بوحجره (موضع شمال شرق بتلميت بأگان يبعد عنه مسافة 110 كلم، به بئر حفرها جدها عبد الفتاح رحمه الله سنة 1860م).   

نشأت ‌في حجر والديها، وتربت وتعلمت الكتابة والقراءة على يديهما، وارتضعت ثدي كرائمهما، واعتجرت رداء مكارمهما، ونهلت من معينهما، وترعرعت منذ نعومة أظفارها بين أوساط أهلها وهم يوجهونها إلى العلم والأخلاق وتهذيب النفس. 

حتى نهض إدراكها، وظهر في المعرفة حراكها، قرأت القرآن الكريم وحفظته، وتعلمت بعض المقدمات والمتون الفقهية إلى أن بلغت مرادها.   

تكونت شخصيتها في بيئة ذات مكانة سامية اشتهرت بالعلماء والشعراء والحكماء، بيئة ‌أنجبت الفحول من الفرسان والأبطال، فساعدها هذا كله في تكوينها وإذكاء قوة الشخصية لديها. 

هي التقية الطاهرة المصونة، الدرة الفاخرة الثمينة، ذات الجناب الرفيع، والحجاب الضافي المنيع، السيدة الجليلة، المثيلة الأصيلة، العفيفة الصينة، الخيرة الحَلِيمَةً، العاقلة ‌الورعة، تميزت بنفس ‌فاضلة، وهمة عالية، المتفرعة من دوحة السيادة والفضيلة، المتربية في مهود العقل والصيانة، الموفية بعهود الاتصاف بالديانة، كثيرةَ الأوراد والتلاوة، صَوّامةً قَوّامة، ولن أوفي حقّ الشيخة الناهه ‌مهما ‌كتبت عنها. 

ثم لمّا أراد إكرامها الله *** وسنّى لها المنى والأمانا 

قصدها الشيخ سيدي باب:  

وحيد الْعلَا عز الشَّرِيعَة وَالْهدى *** وزينة أَرْبَاب الْفَضَائِل فِي الْعَصر 

إمام عُلُوم ‌سعدها وشريفها *** وفاضلها المربي فخارا على الْفَخر  

وتزوجها سنة 1880م: 

أمهرتها سؤدداً زادت به شرفا *** لأن مجدك مجد غير مكتسب  

هنيت فيها ودام السعد مرتقيا *** يعلو على قمة الجوزاء والحجب 

كانت له نعم الزوجة الصالحة، وخير معين في السراء والضراء، أنجبت له الأبناء الخلفاء النبلاء الفضلاء، والبنات الصالحات الكريمات: 

الشيخة مريم محجوبة، الشيخة فاطمة البتول (بدِّ)، الشيخ محمد، الشيخة ميمونة، الشيخة عائشة، الشيخ أحمد، الشيخ عبد الله، الشيخ عبد الرحمن، الشيخة زينب، الشيخ إبراهيم، الشيخ الحسن، الشيخ إسماعيل، الشيخ إسحاق، الشيخة التقية، الشيخة سارة، الشيخة خديجة(آدية)، الشيخة حفصة. 

أما الشيخة عائشة والشيخ عبد الرحمن والشيخ الحسن والشيخة التقية فقد توفوا صغارا. 

هم النجوم وهم زهر الرياض وهم *** أسد العرين وهم أعلى الورى رتبا 

شم الأنوف وآساد الصفوف وكم *** من مرة كشفوا الأحزان والكربا   

                      ********                           

  السادة العلماء نسل السادة ال *** فضلاء نسل السادة النجباء  

                      ********* 

بيت له شرف أشم وعزة *** ومهابة وصلابة وتسدد 

لازلتم تتوارثون سيادة *** أبدا يقوم بها وينهض سيد  

كانت من الكرم والبر بِالْمحل الْأَعلَى، وَلها من سَائِر المحاسن القدح المُعلَّى، اشتهرت، وبعد صيتها وانتشر.  

فكم أسدت الإحسان والفضل للورى *** فسادت به فخراً على كل من يسدي 

كريمة طبع بنت جود عفيفة *** سليلة سادات كرام من المهد

 كانت الحضرة آنذاك طرازاً فريداً، ونسيجاً وحيداً، لم يكن في الحواضر الأخرى مثلها، وكانت هي مركز راية الحق، ومجتمع وفود الخلق، وفي أيام ‌سعدها، وأوج عزها، زاخرة بالعلماء الكبار، والجهابذة الحفاظ، تضرب إليها آباط الإبل من كل مكان، ومهوى أفئدة المحتاجين، والخائفين، وطلاب العلم. 

‌تولت وظيفتها وترتيب شؤونها، وصار الناس يرجعون إليها في الأمور المتعلقة بالحضرة، ومن كثرة إحسانها وبرها تقاطر عليها المحتاجون لقضاء حوائجهم، سواء كان عند زوجها الشيخ سيدي باب أو عندها، وهي لا ترد طالبا ولا ترجع أحدا خائبا، وكان اشتد ساعدها، ورسخت في الحضرة وطأتها، فساستها سياسة حسنة، واشتهرت بالصفات الحسنى، حتى كانت ملجأ وغوثا للناس. 

كفلت الأرامل واليتامى والغرباء، وواست الضعفاء، وكانت تتفقدهم بالنفقة وتزوجهم، وتباسطهم وتمزح معهم وتجبر قلوبهم. 

كانت من النساء القلائل اللائي فَدَيْنَ الكثير من المستضعفين والمستضعفات.

لها الحظ الأوفر من كل فضيلة، والسهم الأعلى من كل مكرمة: 

مغناك منتجع الوفود وطالما *** شدّت إليه رواحل الشّعراء 

بك مفخر لذوي الرّئاسة والحجى *** وأولى النّهى والسّادة النّجباء. 

من شك في أن شخصية الشيخة الناهه – رحمها الله – كانت محور ذلك البيت الكريم بما ‌حباها ‌الله تعالى من نضوج عقلي مبكر، وجراءة كبيرة، وسماحة خلق، وبساطة في الحياة: رضى وقناعة. 

توفيت سنة 1922م، وصلى عليها ابنها الشيخ محمد بن الشيخ سيدي باب بأمر من والده. 

ودفنت عند البعلاتية بأبي تلميت، وهي أول نزيل البعلاتية من أهل البيت. 

وأثناء دفنها سمعوا صوتا مجهول المصدر يتلو قول الله تعالى: ((بلدة طيبة ورب غفور)). 

شهد لها زوجها الشيخ سيدي باب ــ بعد وفاتها ــ بقوة الإيمان وصدق اليقين بالله عز وجل. 

فالله يحلها في فسيح الرضوان ورحبه، ويجعل ‌الرحمات المتواليات من حزبها وصحبها. 

كُنْت للناسِ في المُلِمَّاتِ ذُخْراً *** أعْظَمَ اللهُ فيك للناسِ أجْرا 

وسَقَتْ قَبْرَك السحائِبُ مِمَّا *** وَسَقَتْ مِن بِحارِ ذي العَرْشِ قَطْرا 

لِتَفوحَ الرِّياضُ حَوْلَك طِيْبا *** مِثْلَ ما فاحَ طِيْبُ ذِكْرِك عِطْرا                   

                            *******

 سقى الله قبرًا ضمَّه وابل الحيا *** وحيّاها بالرضوان رضوانُ والحسنى 

وألبسَها من كاملِ العفوِ حُلّةً *** تفوقُ به ظرفًا وتزهو بهِ حُسنا 

وأتحفَها في قربهِ ورضائِهِ *** بدائعَ نعماءٍ لها قد غَدَتْ حُسْنى.  

 يقول الشيخ العلامة أبو مدين بن الشيخ أحمدو في رثاء الشيخة الناهه بنت عبد الفتاح رحم الله الجميع:

شوق الأحبة يوم البين أضناني *** وهز دوحة أفناني فأفناني 

زار الخيال فأحياني بزورته *** بعد الهدو وأرداني

 بأردانحاولت رؤية وجه كان يستره *** عني ببرقعه القاني فألقاني

حييته بعد ما ولى فقلت له *** حي القتيل فحياني فأحياني

ما زال يقتلني ليلا وينشرني *** حتى رأى غرة الإصباح تغشاني

لما رأى غرة الإصباح مقبلة *** ولى وغادر قلبي حلف أشجان

لم يُنسِني البين إنسانا أنست به *** عن كل إنسانة منا وإنسان 

لا يؤلم البين ما دامت سلامة من *** قد بان عنك من اَحباب وأقران 

لكنما البين والآلام قد جمعا *** في بين من بان في لحد وأكفان 

 يا قلب إن كنت بالتصديق متصفا *** فاخشع وعدّ عن الدنيا ألم يان

إن الصِّبا واتباع الغي في دعة *** أمران عند انكشاف الغيب  مُرّان

لا تأمن الدهر إن الدهر متصف *** بالغدر والجور في القاصي وفي الداني 

سالمته فرمى ظهري وكم زمن *** أعرْته فيه آذاني فآذاني 

أما تراه رمى أم الأرامل في *** لحد ورقرق دمعي بين أجفاني

قد غيب الدهر عنا كل محمدة *** وكل بر ومعروف وإحسان 

غابت عقيلة أتراب مهذبة *** تغضي وتصفح دأبا إن جنى جان

تجني العفاة ثمارا من مواهبها *** وليس ينقصها ما يجتني الجاني 

غابت وما غاب من أبقى محامد لا *** تفنى وكان مناخ  الضيف والعاني

بنت يداها جزاها الله صالحة *** من خالص المجد ما لم يبنه بان

قامت لياليَ ديجور الشتاء على *** إيثار ذي الحاج من أهل وجيران

 وليس يشغلها حر الظهيرة عن *** صوم النهار ولا ترتيل قرآن 

لا زال في روضة حلت بساحتها *** ما تشتهي النفس من روح وريحان

لله شمس كمال بعدها أفَلت *** وكل شيء على ظهر البرى فان 

سقى وأروى ثرى لحد تضمنها ***  جود يجود برُِضوان وغفران.

ويقول أيضا في رثائها:

يا رحمة الله أمي روضة الناها *** وجنّبي كل مغنى دون مغناها

ولا تزالي بذاك القبر إن به *** سما العلا ومبانيها ومعناها

جادتك من رحموت الله سارية *** تقيك ما تختشي يا روضة الناها

ولا عدتك من الرحمن مغفرة *** تجري عليك فراداها ومثناها. 


                وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي