العلامة الفاضل سيد محمد (الراجل) بن الداه بن داداه

جرت لبحور العلم أمداد فكره *** لها مدد في العالمين يتابع  

تسربل بالتقوى وليدا وناشئا *** وخص بلب الكهل مذ هو يافع 

وهذب حَتَّى لم تشر بفضيلة *** إذا التمست إلا إليه الأ صابع

هو: 

العالم العلامة الإمام *** الكامل الأعجوبة الهمام

 القاضي الكبير والعلامة الشهير سيد محمد بن الداه بن داداه بن المختار بن الهيبه، وأمـه مريم بنت أحمـد بن محمذ حبيب الله الملقب آبو بن محمذ بن أحمد دوله، ويلقب سيد محمد بن الداه (الراجل) وقد اشتهر بهذا اللقب, ولد سنة 1265هـ. 

‌نشأ ‌نشأة طاهرة حسنة بين أبويه فتأدب وتهذب، توفي والده العلامة الداه سنة 1270هـ ولما يبلغ الراجل الثامنة من عمره، فتولى الشيخ سيدي الكبير تربيته وتدريسه، وأحبه محبة زائدة لمحبته للداه والده، ولأنه هو بقية بيت أخيه الكبير داداه، واعتنى به غاية الاعتناء في صغره، فمكث معه سبعة أعوام.  

وكان الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيدي قد دعا الله عز وجل أن يجعله خلفا لوالده وذلك في قوله في آخر مرثيته لوالده: 

 واجعـل لنـا ربِّ منـه فـي ابـنه خـلفَـا *** عســاهُ يَحظَـى لنـا منـه بإشــبـاه

 بجـــاه مـن أنَّ جِـذع عنـد فُرقتـه *** وحَـنَّ تَحــنــانَ أمِّ الـسقْـب ميـلاهِ

 قرأ القرآن المجيد في صغره وجوده، وحفظ أمهات الفنون وأشعار العرب ووقائعها، وأكب على تلقي العلوم بجد واجتهاد حتى نبغ وبرع وفاق أقرانه، كما حفظ الكتب والدواوين المتداولة بين الناس، وكان قد استرعى الأنظار منذ حداثة سنه بذكائه ورغبته الشديدة في العلوم.  

قرأ على علماء حضرته مثل العلامة محمد محمود بن عبد الفتـاح، وعلى محمذن بن عثمان المعروف بالدُّوَّ بن عيمور, يقول الشيخ هارون بن الشيخ سيدي باب عن سيد محمد الرجل: (...وحفظ شعر الشيخ سيدي الكبير, وسمع أكثر ديوان الاستسقاء منه مباشرة، ، وسمع من الشيخ سيد محمد بعض شعره, وحفظه كله في أول عصره, وعرف أسباب قولـه ومعانيه الخفية، وكان الشيخ سيدي يضم الراجل إليه ويجلسه بين يديه, ويجعل التمر في فمه, ويدعو الله تعالى له, ويستحكيه ما حفظ من استسقائه, ولا سيما قصيدته الحائية: يا واسع الرحمات يا فتـاح يامن دعاه لبابه مفتاح وهو الذي أمره بالقراءة على أمه...). انتهى كلامه. 

 وسافر إلى محظرة محمد بن محمد سالم فدرس عليه متون الفقه كمختصر الشيخ خليل، كما أخذ عن أولاده الأربعة المتون اللغوية. 

كان العلامة سيد محمد (الراجل) بن الداه بن داداه قدوة الناسكين، عمدة السالكين، قطب الدين، بقية العلماء العاملين، عالما، عاملا، صالحا، فاضلا، ‌تقِيًّا، نقِيًّا، مُجِدًّا، متواضعا، إِمَاما وَرِعا، وَافر العَقْلِ، حَسَن السَّمتِ، مُتبحِّرا فِي الأُصُوْلِ وَالفُرُوْعِ. وَكَانَ شَيخا مهيبا، وقورا، فَاضلا، عَالما بِخَبَر السّير، كَامِل الْعقل، عفيفا نزها، جميل السِّيرَة، مَحْمُود الْأَفْعَال، كريم الْأَخْلَاق، بِالغَ فِي الطَّلَبِ، فاق أهل زمانه فى الفضائل، وجمع أشتات العلوم ونفائس العقائل، ورحل إلى المحاظر الشاسعة، فحصل العلوم النافعة، وعاد بأشرف الوسائل، وأفاد من علومه الجمة، وفوائده المهمة، مضافا إلى النسب الشريف العالي، والحسب المنيف الغالي، والأخلاق الجميلة، والصفات الحسنة الجليلة، والسجايا الطاهرة، والمزايا الباطنة والظاهرة. وكان رحمه الله على جانب كبير من الأخلاق الفاضلة، متواضعاً للصغير والكبير والغني والفقير. 

جلس ‌للتدريس زمنا طويلا, فاجتمع له من طلاب العلم المئات, يدرسون عليه أنواع العلوم, فأزال عَن الطلاب مَا كَانَ لديهم فِيهِ الْإِشْكَال والتلبيس, ولم يزل فِي ارتقاء فِي عمله وخيره, وكان يقضي بعض وقته في الاجتماع بمن يرغب حضوره فيكون مجلسهم نادياً علمياً، حيث كان يحرص أن يحصل لأهل المجلس فوائد عظمى التي يشغل وقتهم فيها، فتنقلب مجالسهم العادية عبادة ومجالس علمية، ويتكلم مع كل فرد بما يناسبه، ويبحث معه في المواضيع النافعة له دنيا وأخرى، وكثيراً ما يحل المشاكل برضاء الطرفين في الصلح العادل، وكان ذا شفقة على الفقراء والمساكين والغرباء ماداً يد المساعدة لهم بحسب قدرته, وكان على جانب كبير من الأدب والعفة والنزاهة والحزم في كل أعماله، وكان من أحسن الناس تعليماً وأبلغهم تفهيماً، مرتباً لأوقات التعليم. 

له المحبة التامة للعلم وذويه والشغف الوافي بالفضل وحامليه، ولا سيما ما كان عليه السلف الصالح من الطريق المستقيم الواضح، فقد طوى قلبه على محبتهم وسلوك منهجهم وطريقتهم: 

ودوحة عزٍ يستظل بظلها *** وروضاً من الآداب تجنى ثماره

 وقد مر رحمه الله في حياته بمحنة عصيبة، لكنها انقلبت في آخر الأمر إلى نعمة، كانت أحداثها يوم الجمعة 15 رمضان سنة 1313هـ الموافق 29 فبراير سنة 1896م، عند موضع يسمى لكريفيات، وقد ذكرها الشيخ هارون مفصلة في كتابه الكلام على أهل داداه. 

لكن الله تعالى بفضله وكرمه نجى العلامة سيد محمد الراجل من شر اللصوص الذين غاروا على حيه واستاقوا جميع الإبل والأموال التي كانت بحوزتهم.  لكن العلامة سيد محمد الراجل لم تضعف عزيمته، ولم تتزعزع معنوياته: 

وجدَّ يدأب في تنفيذ خطته *** ولم ‌يهن ‌عزمه عجزا وما رهبا

بل واصل البحث، وسار في إثر هذه الأموال عسى أن يسترد منها شيئا، وفي رحلته هذه مر بقبائل وعلماء أخذوا عنه العلم وأخذه عنهم، وألف أثناءها كتبا، واستفاد من تجارب الآخرين، كما التقى بالكثير من الأعيان. 

ولما رجع من رحلته هذه سنة 1316هـ الموافق 1899م التقى بالشيخ سيدي باب، ومكث معه مدة، ثم استقر به المقام بين أهله وذويه. 

عين الراجل قاضيا في أبي تلميت سنة 1330هـ، فجمع بين القضاء والتدريس. 

 كَان بَصيرا ‌بالْقضَاء مَحمُودا فِيه, عَارِفا بِالْأَحْكَامِ والوقائع والنوازل والحوادث, متحرياً فِي أحكامه, بصيرا بالشروط والمسائل الغامضات، صدرا نبيلا, صَالحا, دينا, عابدا, زاهدا, ثقة، عاقلا، فطنًا, في غاية حسن الخلق والصبر على التعليم, وعدم الضجر منه ومن أخلاق الطلبة, كما كان شديد التحقيق والتثبت في المسائل العلمية. درَّس الراجل أنواع العلوم العقلية والنقلية واللغوية في الوقت الذي كان يقضي بين الناس أيضا ويصلح بينهم ويصدر الأحكام القضائية في المنازعات المختلفة: 

وكم أفدت وكم أسندت من حكم *** وكم أعدت وكم أبديت للفهم

 وكم وكم ما عسى بالوصف أذكره *** وليس يأتي عليه الوصف بالكلم

 أذكرتنا سلفا حدثتنا بهم *** يا حافظ الوقت من عرب ومن عجم

 يقول الشيخ هارون عن العلامة سيد محمد الراجل بن داداه: (..... أما ديوان الشيخ سيدي والشيخ سيد محمد فكانا يجريان منه مجرى النفس، وكانت مذاكرته بهما وفيهما أحلى عنده من العسل وتوقظه من النوم، وكان يعظم الوالد الشيخ سيدي باب غاية وأخاه الشيخ سيد المختار كذلك، ويعظم جميع المنتسبين للشيخ سيدي بقرابة أو تلمذة أو محبة، لما فطر في قلبه وراثة عن أبيه وجده، وكانت هذه الطوائف كلها تحب الراجل وتعظمه وتكرمه لسنه وعلمه وقرابته، ولأنه بقية بيت الداه في وقته وداداه .... وقد شاع الراجل هذا وطار صيته في كل بلد وشهد الناس على خطه في أقاصي البلاد، وقصده الخلق لأخذ العلم عنه وقد قرأ عليه أخونا العالم محمد وكذلك أخونا أحمد ومثلهما أخونا عبد الله, ولم يبق أحد من أهل بتلميت إلا قرأ عليه بعضا من أنواع العلوم... إلى أن يقول الشيخ هارون: وقد كنت قدمت على الراجل هذا وهو مسن بعيد عام النيسان الشهير التاريخ, وحيّه إذ ذاك عند المزمزم بئر أخينا الشيخ الحاج إبراهيم بن الشيخ سيدي باب بعد أن تخلى عن القضاء وواصل التدريس, فشرعت أقرأ عليه علوم النحو والصرف وأنساب البدوي ومغازيه, وحصلت عنده ما شاء الله من المتون نقلا وحفظا ولازمته أكثر زمني وهو الذي قص علي أخبار الشيخ سيدي الكبير وأخبار سفره إلى أهل الشيخ سيدي المختار وطرق أهل التصوف وما يتعلق بذلك ... وكثيرا غيره لا أستطيع نشره ولا بسطه ... وأدركته على سنه لم يتغير شيء من حفظه ولا من معرفته للكتب ذاتها ... ويقول: وقد اجتمع معي زمني عنده رجال مـن أهـلـي وجدتهم أمامي يقرأون عنده منهم ابنا أخي الكبير الشهير محمد بن الشيخ سيدي وهما السيدان الحاجان الحافظان إسحاق ويعقوب ثم قـدم علينـا عنـد الـراجـل بعد ذلك الأخ سليمان بن الشيخ سيدي, والابنان يوسف وموسى ابنا محمد بن الشيخ سيدي...) انتهى. 

 وقد أعجب به الشيخ سيدي باب وبعلمه، وحدث عنه في كتابه في أخبار ادوعيش بما لفظه: (... بعد الكلام على المرابط والزاوي والمراد بهما واشتقاقهما أصلا وبعد كتبي لهذا حدثني ابن عمنا السيد الفاضل العالم العامل سيد محمد بـن الداه حفظه الله أن الشيخ الرباني الكبير العلامة الشهير محمد بن محمد سالم رحمه الله تعالى حدثه أن جدهم إبراهيم الاموي كان قاضي جيش أبي بكر ابن عمر اللمتوني, وكـان مجلسه يسمي مجلس القضـاء, و به سمیت  القبيلة المجلس, ثم كانت له زاوية يأوي إليه فيهـا التائبون الذين يريدون الانقطاع للعلم والعبادة وترك أمر الحرب والسلاح, وأنه كان منهم أجداد قبائل من الزوايا فصار يقال لهم (الزاوية) أي أهل الزاوية أو نحو هذا, وأن هذا هو معنى ما اشتهر أن المجلس أصل الزوايا...) انتهى . 

ومن أشهر الذين تلقوا عنه العلم العلامة المحدث محمد بن أبي مدين, والعلامة القاضي محمد يحيى بن محمد الدنبجة, وغيرهم من العلماء الذين ذاع صيتهم, واشتهر خبرهم في كل مكان. 

قال المختار بن أحمد محمود بن محمذ بن عيدُ في مدح العلامة سيد محمد (الراجل):

 تحية مثلها لي ما جرى أبدا *** على محيا ولم أتحف به أحدا

 سوى السميذع نجل الداه سيدنا *** محمد المرتضى من لا يني أبـدا 

 في كشف معضلة أوحل مشكلة *** أو نيل منزلة عالية وندا. 

وقال محمدُّ النان بن المعلى يمدح العلامة سيد محمد (الراجل): 

 تولى أمور المسلمين فرمَّها *** وأحصى الحصا منها على كثرة عدا  

 وساس على حذق وحسن تصرف *** فما جازه حدٌّ ولا جاوز الحدا 

  أحاط بها علما فحاط حدودها *** و أعطى جميعا حقه الحر والعبـدا  

مناقب سمح يشتري الحمد بالندي *** ومن ذا الذي يعطَى بلا ثمن حمدا 

 فرد من فتى الفتيان سيد محمد *** إذا كنت حران الحشا البحر والعدا 

 وزر منه مرضي الشمائل فاكها *** عليما حكيما تقطف العلم والزهدا 

 وواصل العلامة سيد محمد الراجل عطاءه إلى أن توفي يوم 17 شوال سنة 1360ه، الموافق 7 نوفمبر 1941م، عن عمر قارب الخامسة والتسعين سنة, ودفن بتندوجه.  

وقد خلف رسائل ومؤلفات عديدة أغلبها في الفتاوى وأحكام القضاء.

 رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

 وقد أرخ الشيخ عبد الله بن سيد محمد بن الداه وفاة والده باليوم والوقت والشهر والعام، وذلك حيث يقول: 

قضى الامام الحبر نجل الداه *** سيد محمد وذاك داه 

   سابع شوال بعيد العصر*** يوم الثلاثاء فيا للعصر

   في سنة تاريخها كشمس *** وعمره كمل مثل شمس

 يقول العلامة أبو مدين بن الشيخ أحمدُّ في رثاء العلامة سيد محمد الراجل بن الداه بن داداه رحمهم الله تعالى:

 أرى السيد المحمود بدر الدياجر *** ترحل عنا نحو أهل المقابر

 ترحل عنا عالم متأدب *** خبير بما تحوي بطون الدفاتر

 هو الزاهد اللاهي بأمر إلهه *** بترك المناهي وامتثال الأوامر

  قدَ ادبر عن دنياه في بدء أمره *** وأقبل نحو الله واليوم الآخر 

 فما همّه إلا كفاف يعينه *** على درس علم أو على جبر خاطر

 وأمر بمعروف وتغيير منكر *** وتعليم ذي جهل وإرشاد حائر

   نتوسم فيه الناظرون نجابة *** وعلما وحلما قبل شد المآزر 

 تجرد للعلم الشريف فناله *** بجِد وجَد في العلى غير عاثر 

فما ورث العلم الشريف كلالة *** ولكنه عن كابر بعد كابر

  فنال من الداه العلوم ونال من *** أبيه فخارا بذ فخر المفاخر

 ونال من المختار ما اختار فاقتنى ***  شوارد علم من بحار زواخر 

  وقد خصه المولى بأشياء ذكرها *** يبشر من يعنى بذكر البشائر

 رأى شيخنا الشيخ الكبير بعينه *** فنال بيمن الشيخ نور البصائر 

 ونال دعاء صالحا من سليلـه *** به عُد في أهل العلى بالخناصر

 سقى الله من رحماه قبرا ثوى بـه *** وبارك في أبنائه والعشائر.

وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي