بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الله يطفـح بالمعانـي *** ويسمو بالبلاغـة والبيـان
ففيه من الذخائر كـل ســر *** عظيم ، قد بــــدا في كل ٱن
وفى القرآن للقلـب اهتـداء *** وحصن للرعاية والأمـــــــــان
ومن آياته انفجـرت بـحـار *** من النور المطمئـن للجنـــــــان
يحار الفكر في القرآن دومـاً *** ويعجز عن روائعه الحسـان
وكان وما يزال وسوف يبقى *** جديداً في الزمان وفي المـــكــــان
تُدعمـه علـوم معجـــزات *** ويخشع في حماه الخافقــــــان.
هو كتاب الله تعالى، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِيَ اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾، يقول ابن كثير رحمه الله: وترك تعلمه وحفظه أيضا من هجرانه ، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه ، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه ، والعدول عنه إلى غيره - من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره - من هجرانه.اهـ
ويقول ابن القيم رحمه الله: تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله، وله الحمد كله، أزمّة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، ومردّها إليه، مستوياً على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافية في أمصار مملكته، عالماً بما نفوس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع، ويرى، ويعطي، ويمنع، ويثيب، ويعاقب، ويكرم، ويهين، ويخلق، ويرزق، ويميت، ويحيي، ويقدر، ويقضي، ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرض إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.
فيذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون بها تمامها، ويحذرهم من نقمه.
ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء. ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم، وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم، وقبيح صفاتهم.
ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل.
ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها، وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته.
ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مُقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذراهم، ومصلح فسادهم، والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعد، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم؛ فنعم المولى ونعيم النصير.
فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً، رحيماً، جواداً، جميلاً، هذا شأنه؛ فكيف لا تحبه، وتتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليه من كل سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟! وكيف لا تلهج بذكره، ويصير حبه، والشوق إليه، والأنس به؛ هو غذاؤها وقوتها ودواؤها؛ بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟! .اهـ .
وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي