عين السلامة أرض الرجال والتاريخ والمآثر

أيَا عَينَ السَّلاَمَةِ لاَ تَنَامِى *** فَقَد أيقَظتِ نُوَّامَ الأنَامِ

 وغِظتِ الحَاسِدَ العِرِّيضَ غَيظاً *** سَقَاهُ مِنَ المَذًلَّةِ والمذَامِ 

وكُنت لأعيُنِ الأعدَاءِ دَاءً *** دَوِيًّا في الشِّغَافِ وفي العِظَامِ

 سَقَى أَرجَاءَهَا صَوَّبُ الغَوَادِى *** مُبَارَكةَ المَغَبَّةِ بالدَّوَامِ

 أسس الشيخ عبد الله بن الشيخ سيدي باب رحمه الله حاضرة عين السلامة 10 كلم شمال مدينة أبي تلميت سنة 1932م، ثم حفر بها بئرا، وذلك بعد أن اشترى أرضها شراء صحيحا والتي كانت لتيمرگيون، وكان الشيخ أحمد بن محمدو بن المختار فال بن الكوري السعيدي نسبا، الانتشائي خؤولة صديقا للشيخ عبد الله، وهو الذي سعى معه في الحصول على تلك الأرض بحكم علاقة الشيخ أحمد الوطيدة معهم. 

فلما تمَّ للشيخ عبد الله ما أراد، ‌وتحقق ‌ما ‌كان يرجوه ويأمله، وبحدود معروفة (منها مثلا كثبان ایتنيته و ام شندات و احسي احمد ولكراع واكنيفيدات...). بارك الله تعالى له فيها، فصارت ‌مهوى الناس لما فيها من الأمن والراحة النفسية والأرزاق التي يحتاجها الناس، ولأنّ هذه الحاضرة الناشئة استقطبت أنظار من حولها للأمن والاستقرار، ووفور النعم وتتالي الخيرات فيها. سما بها الفرع الباسق، والأصل الثابت، وطاب فيها المنبت والنابت.  

أسسها على التقى *** خَليفَة الْعَصْر الْأَجَل   

 يَرْجُو رِضَاء ربه *** بلغه الله الأمل 

كانت ذروة العز والقوة والمنعة وكثرة الخير والبركة، ومحل الحل والعقد بعد أبي تلميت، يؤمها الناس من كل حدب وصوب.  

اتخذها مقرا له، قصده فيها كبار الشعراء والعلماء والعامة والخاصة، وأصحاب الحاجات المختلفة، فكانت مركزا ثقافيا مهما ذا شأن كبير اشتهرت بآثارها العديدة. 

كانت ‌محط ‌أنظار مختلف طبقات وفئات المجتمع يأتونها زائرين ومستفسرين ومتعلمين وسائلين واصلين، طامعين ولاجئين، كما غدت محل عنايتهم.

 لها الحظوة التامة، والمحاسن الخاصة إلى الخيرات العامة.  

يقول ڭراي بن أحمديورَ :

عينَ السلامةِ كم شاهدتِ من قُرَبٍ *** وكم سما فيكِ محرومٌ ومظلومُ

ما أنتِ إلا أمانُ الخائفينَ فكم *** فرَّجت همًّا وكم وافاكِ مهمُومُ

بنى بها الشيخ عبد الله مدرسة سنة 1953م، وتعد من أوائل المدارس في البلاد، انتدب لها مدرسين أكفاء، قاموا بواجبهم أحسن قيام، وأدوا مهامهم أفضل أداء. 

كما أسس بها محاظر لتعليم القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية استقطبت الكثير من طلاب العلم والمعرفة من جميع ربوع البلاد، تصدى للتعليم فيها قراء وعلماء وأدباء، فتخرج ‌على أ‌يديهم ‌خلق كثير ممن صار لهم شأن فيما بعد، ولا غرابة فمن كان مثلهم في العلم والفضل لابد وأن يكثر تلاميذه، فالمنهل العذب كثير الزحام دائما.  

 

ومن بين رجالها الذين يشار إليهم بالعلم والصلاح والشهرة الشيخ أحمد بن آل محمد بن الشيخ سيدي باب الذي تفرد بِالعلم الوَافر مَعَ السيرَةِ الجمِيلة، وَالطرِيقة المَرضِية، صَنَّف تصانيف وجمع مسائل شرعية ولغوية، كَانَ زَاهِداً، وَرِعاً، مُتوَاضعاً، ظرِيفاً، كَرِيماً، جَوَاداً، طَلق الوَجه، دَائِمَ البِشر، مليحَ المُحاورَة: 

إمام إذا ما رمت نعت صفاته *** فذلك شيء من علا الشمس أبعد 

رقى من ثنيات العلوم بواذخاً *** لها في تخوم الفكر أصل مؤطد 

إلى كعبة العلم الذي صار صدره *** لها حرماً فهام ذي الفضل تسجد 

وطود فخار قد تسامت به العلى *** وبدر علوم للاضاءة يرصد 

وبحر نوال ‌لا ‌يضاهى خضمه *** وشمس معال عندها تقصر اليد   

كما ساهم الرجل الفاضل يسلم بن ميلود رحمه الله في نشر العلم والمعرفة، وكان له دور كبير تدريس نخبة من الطلاب، كما تولى إمامة مسجد عين السلامة ردحا من الزمن إلى أن توفي رحمه الله.

وكذلك الرجل الفاضل محمد بن القاظي الحجاجي رحمه الله. 

وقد لعبت عين السلامة دورا كبيرا ومحوريا أساسيا لا ينسى عام الشدة، ففي سنة 1943م وقعت في بعض مناطق موريتانيا شدة وغلاء وجفاف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ولم يجد الناس ما يلبسون فسمى الناس ذلك العام عام الشدة أو عام الهوفة، وقد جمعت المقادير على الناس في موريتانيا جفافٌ جارف وموتان في الأنعام وتوقف التجارة، فزاغت أبصار السكان وبلغت قلوبهم الحناجر.  

وقد أدركت بعض كبار السن ممن عرف تلك السنة، وأصابته تلك البلوى يتحدث عن أحوال رهيبة تنحبس بها الأنفاس وتشيب لها الولدان، وهي أحوال ما بين جوع ممض، وفقر مدقع، فقد عبث الدهر بحياة الناس، وجر عليهم كلكله، وكان أكثرهم حظا من يجد جلدا يلبسه إذ شاع العري بينهم حتى صار الشخص لا يسافر إلا ليلا ويظل طيلة يومه متخفيا عن الأعين 

وقد قال المؤرخ العالم المختار ولد المحبوبِ اليدالي في نظمه التاريخي متحدثا عن عام الشدة أو عام الهوفه وما يتعلق باللباس وندرته ذلك العام: 

وأخِذَ الأنامُ بالسنينَا *** فى عام "واحد مع الستينا" 

وكل مسلم به مجهود *** ولُبْسُهُ الخِرَقُ والجُلود 

لكن الشيخ عبد الله أعد العدة وأخذ للأمر أُهْبته، فانتهج سياسة اقتصادية حكيمة، وأدار الأمور إدارة مدروسة، فكان يشرف بنفسه على توزيع الأقمشة والمواد الغذائية واللحوم ... على الناس، وانتدب لهذه الأزمة فرقا خاصة من الرجال والنساء، يقومون بحمل هذه المواد إلى من يستحقها، داخل قريته عين السلامة والقرى المجاورة، وكانت المؤن والمساعدات تصل إلى بتلميت يوميا.

 وحدثني بعضهم أنهم أُعدوا لحمل الخبز من بتلميت إلى عين السلامة كل صباح، والبعض الآخر كانت مهمته توصيل العيش ليلا إلى المحتاجين والمساكين، ولم يزل هذا دأبه وعمله إلى أن لقي الله عز وجل، كما كان مسكنه بعين السلامة مهوى أفئدة المحتاجين والفقراء والمساكين يجود عليهم ويوسع عليهم ويقضي حوائجهم على اختلاف أجناسهم ومشاربهم، حتى مرت الأزمة والشدة بسلام على المناطق التي كانت تصلها إمداداته، ولم يسجل إلا حالات يسيرة من تبعات الأزمة. 

استوطن عين السلامة شرقا أهل محمد اليدالي (ميمونة بنت الشيخ سيدي باب)، ومن الناحية الجنوبية الشرقية: أهل مولود بن داداه (خديجة آديه بنت الشيخ سيدي باب)، وأهل محمد سيديا بن داداه (سارة بنت الشيخ سيدي باب)، وأهل أبو مدين بن الشيخ أحمدو من الناحية الجنوبية الغربية، وغربا أهل حمود بن الطالب، وأهل المصطفى خصوصا أهل محمد المصطفى (تتاه) وأهل سيد المختار.   

وكان الشيخ عبد الله كريم الأخلاق، لين الجانب، سخي النفس، مؤثرا للإحسان، حافظا للقرآن الكريم تلاء له، خبيرًا بالقراءات التي تلقّاها عن المَهَرة فيها، محيطًا إحاطةً نادرة، ذكيا، زكيا، فاضلا، جامعا لأوصاف الخير والنبل، محبا للعلماء محسنا إليهم، معتنيا بشأنهم، مشاورا لهم، لا يبرم أمرًا دونهم، أحيا رحمه الله دارس العلوم، وما زال قدره رفيعا، وجنابه مكرما منيعا إلى أن توفي رحمه الله. 

أنفق الكثير في زمانه، وأسس أعمال بر ومعروف عم نفعها. 

وقد فتح الشيخ عبد الله صدرَه ومنزله ومكتبته للقاصدين من طلبة العلم؛ فأصبح مقره ‌مهوى أفئدتهم، يقصدونه من شتى الأنحاء يستفيدون من الشيخ نفسه، توجيهًا، وعلمًا، وظرفًا، وأدبًا؛ وينهلون من معين ما حوت مكتبته ومحظرته من كنوز العلم والمعرفة، مما كان له جميل الأثر في نفوس طلاب العلم والزوار ومحبي الشيخ.  

يقول محمد ولد ابن ولد أحميدن يمدح الشيخ عبد الله: 

تَمُرُّ بِهَا الخُطُوبُ وهُنَّ شُوسٌ *** فَتُلفي الشيخَ أثبَتَ مِن شَمَامِ 

ومُشتَمِلاً عَلَى كَرَمٍ وحَزمٍ *** شَبَاةُ يَرَاعِهِ ظُبَةُ الحُسَامِ 

ولاَ يَصبُو ِإلَى رِىٍّ ذَلِيلٍ *** إِذَا مَا كَانَ عِزٌّ في أُوَامِ 

فَتَجلُو غَمرَةَ الحِدثَانِ عَنهُ *** عَزَائِمُ لاَ تَطُوعُ لِمُستَنَامِ 

لَهُ هِمَمٌ جَمَعنَ لَهُ المَعَالِى *** كَجمعِ الكَفِّ مَجمُوعَ البَنَامِ 

أعبدَ اللهِ عِش مَلِكاً هُمَاماً *** وُقِيتَ الشَّرَّ مِن مَلِكٍ هُمَامِ 

وبعد وفاة الشيخ عبد الله رحمه الله تولى رعاية المصالح والشأن العام فيها التقي النقي الفاضل الشيخ إسماعيل بن محمد بن الشيخ سيدي باب، فلم يدخر هو وإخوته جهدا ولا مالا، ولم يألوا سعيا، ولم يثنوا عزما في السير في هذا الطريق، من إغاثة للملهوفين وبذل للجاه والمعروف والسعي في المصالح العامة للعباد والبلاد.  

ولا يزال حفيد الشيخ عبد الله الأستاذ أحمد كلي بن إسماعيل بن محمد بن الشيخ سيدي باب ‌يحذو ‌حذوه، ويقفو أَثَره، ويسير على خطاه، فقد حقق الكثير من الإنجازات الظاهرة للعيان، وبذل الوسع والجهد للقريب والبعيد، الضعيف والفقير، سجل له التاريخ مواقف نبيلة لا تنسى، ومآثر جليلة لا تحصى، ولا يزال عطاؤه يتوالى:  

سيد إن ذكرت أوصافه *** يعبق المحفل من طيب شذاها 

أصله في الأرض أضحى ثابتاً *** وله فرع تسامى لسماها 

والله تعالى يبقيه، ومن طوارق الزمان يقيه. 

يقول الأديب الشاعر محمد ولد ابنُ ولد احميدن في آل الشيخ سيديا، منوها بفضائل الشيخ عبد الله: 

هَبَّت جُوَيرِيَّةٌ عَذلاَ تُجَارِيني *** مِن أهلِ دَارِيَ، لاَ، مِن أهلِ دَارِينِ

 هَبّت تَلُومُ عَلَى بُطءٍ فَقُلتُ لها *** ِإني بَطِئتُ ولَكِن لاَ تَلُومِيني 

جَاوَرتُ بَعدِكِ مَن يحلُو جِوَارُهُمُ *** في كُلِّ حِينٍ عَلَى مَرِّ الأحَايِينِ 

أهلَ المَكَارِمِ آلَ الشَّيخِ سَيِّدِنَا *** بَابَ المُرُوءَةِ والعَليَاءِ والدِّينِ

 حمَّال كُل خُطُوبِ الدَّهرِ إِن هَجَمَت *** سبَّاقِ حَلْبَاتِ غَايَاتِ المَيَادِينِ 

هلاَّكِ مَالِهمُ في صَونِ عِرضِهُمُ *** سلاَّك شِرعَة نِبرَاس الأنَاسِينِ

 مُحيِوا عُلُوم تَعَفَّت آيُ أرسُمِهَا *** مُدَوِّنوهَا بِتَحرِيرِ وتَدوِينِ 

حسبي من المجد أني بين أظهرهم *** في حسن عز وتأييد وتمكين

يَكفي مِنَ الحَاجِ أني بَينَ حضرَتِهِم *** في حصنِ عِزٍّ وتَأيِيدٍ وتَأمِينِ 

 إذا هَزَزتُ بَسَاتِينَ امتِدَاحهم *** يَسَّاقطُ البَذلُ مِن دَوحِ البَسَاتِينِ 

فَأجتِنِيهِ بِلاَ مَنٍّ بلا كدر *** عَلَى دُنُوٍّ عَلَى رِفقٍ عَلى لِينِ 

وإنني اخَترت مِنهُم شَمسَ صَحوِهِمُ *** عَبدَ الإلهِ شهِيرَ الصِّيتِ في الصِّينِ 

خَلِيفَةَ الشَّيخِ في عِلمٍ وفي عَملٍ *** وفي رَعَايَاتِ حَاجَاتِ المَسَاكِينِ 

وفي دِفَاعٍ عن الغَرَّاءِ رَائِمَهَا *** خَسفاً، وضَيماً، بِوصلاتِ البراهين 

ِ إن كُنتِ طَالِبَة مني الرُّجُوع إِلَى *** أندَاءِ غَيرِهِمُ أو بَينِهم، بَيني 

لو كُنتِ جَاوَرتِهم مَا كُنتِ لاَئِمَتِى *** فَجَاوِرِيهم ولِيني أو فَلُومِيني

           إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي