إن كل من يمسك قلماُ ليكتب خبرا أو ينشر مقالا يتصدى لأمر عظيم، ويتحمل تبعة جسيمة، فليتق الله في كل فكرة يفكر فيها، وفي كل كلمة يسطرها، ولينظر ما أثر فكرته وكلمته في مجتمعه، وما حق هذا المجتمع عليه.
فنجاح الفرد والمجتمع مرهون بمقدار ما ينهلان من رحيق التّربية، وما يقطفان من ثمرات الرّياضة النفسية والقوانين الخلقية.
على المدونين والإعلاميين أن يتسلحوا دائما بالتثبت والتحري ولزوم الصدق وعدم الميل مع غير الحق، حتى يتجردوا بالكلية، عن الأغراض الشخصية، والمحاباة والحمية، وحكاية غير الواقع ونسبة الأمور والواقع لغير أربابها، إذ بالتثبت تثمر مقالاتهم، ويزكو بين البرايا عملهم، وبالعلم يتحاشون من مهاوي السقوط في الزلات والغلطات، وبالأمانة تنتفي عنهم الشهوات والأغراض، فيتكلمون بلسان الحوية، متجافين عن الشهوات النفسية، وواقفين عند حد العدل والمدنية.
والتثبت فضيلة ترجع إلى الأمانة الكاملة والعقل الناضج، ومن تركه كان حريا أن يسير على غير طريق إلى غير غاية، جديراً أن يقول غير سديد، ويطعن غير مقتصد.
فانظر كيف أثر الصحافة إن صدقت، وتحرت الصدق، وطلبت الحق، وأخلصت في طلبه، وعملت للخير ودعت إليه، وسارت على طريقه لا تحيد ولا تضل، ولا تميل ولا تزيغ ولا تجور ولا تحابي!وانظر كيف أثرها إن خلطت صدقا بكذب، ولبست حقا بباطل، وعملت لنصرة فرد أو طائفة أو حزب، وشوهت كل ما ينطق به خصمها وما يعمل! وانظر كيف أثرها إن سعت إلى الانتشار والربح بكل وسيلة، واحتالت لهما بكل حيلة، ولم تبال بصلاح الناس وفسادهم، وخيرهم وشرهم!، وانظر كيف هي إن فتنت القراء وأضلتهم وتركتهم على قلق وتردد في آرائهم وأعمالهم، ولبس وحيرة في أخلاقهم وآدابهم, وأقامتهم في بيداء مضلة لا تبين سبلها ولا تعرف أعلامها؟ كيف أثرها إن احتالت على القراء بما يهوي القراء، وبما يستهوي الدهماء من قصص مفسدة، وصور فاتنة وغيرها من دعايات مدمرة.إن الصحافة خبر ورأي ودعوة وتعليم، وشروط هذه كلها التثبت وقصد الحق والخير والإخلاص فيه ابتغاء وجه الله.
فليس كل ما يسمع من أخبار يروى قبل التثبت والتحري. وليس كل ما يصح بعد التثبت والتحري ينشر حتى ينظر هل هو جدير بالنشر؟ أيستحق أن يذكر؟ أليس في نشره إثارة فتنة أو إضرار بفرد أو جماعة، أو إفشاء لسر يحسن أن يكتم، أو إظهار لأمر يجمل أن يسر؟وأما أن يختلق الخبر، أو ينشر للمساس بالآخرين، أو يذاع لغرض النكاية، أو التشنيع، أو إثارة فتنة فيها هوى للناشر أو مصلحة له أو لحزبه، فهذا تنكره المروءة والأخلاق والدين والتاريخ، فليتق الله في أنفسهم ومواطنيهم ومجتمعهم وفي الناس جميعا هؤلاء الكتاب وغيرهم من المدونين.
وأما الرأي فعماده علم ونظر وترو، فإن رمى بالرأي دون إحاطة بموضوعه، أو دون تفكير فيه، أو بغير إعمال الروية كان حريا أن يبعد من السداد، وأن يخذله الرشاد، وكان خليقاُ أن يضل ويضل ولا يصلح.
وقد أمر اللَّه تعالى في محكم كتابه بالتّثبّت والتّحرّي، وحذّر من الطّيش والتّسرّع فقال: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ).
وكذلك نهى اللَّه عن اتباع ما لا دليل له فقال: ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ).
والذي يعتقد أنه عضو فعال في جسم المجتمع، عليه أن يتعاون هو ومن معه في المحافظة على التثبت، وصحة الروايات، ويبتعد عن الأوهام والاحتمالات والظنون، كما ينبغي عليه أن يعمل على سلامة تقاريره ومنشوراته من البذاءة والافتراء والكذب والقذف، ويتحاشى الأسلوب المقيت الذي ينبئ عن تحامل وحقد وبعد عن الإنصاف.
سئل بعض الحكماء: أيّ الأمور أشدّ تأييدا للفتى وأيها أشد إضرارا به؟ فقال:أشدها تأييدا له ثلاثة أشياء: مشاورة العلماء، وتجربة الأمور، وحسن التثبّت. وأشدها إضرارا به ثلاثة أشياء: الاستبداد، والتهاون، والعجلة.
إن من الحزم والأناة: التثبت، وإن العجلة لا تزال تورث أهلها حسرةً وندامة.
وقال آخر: الصواب قرين التثبت، والخطأ شريك العجلة.
قال الشاعر:
لا تعجلنّ فربّما *** عجل الفتى فيما يضرّه.
قيل التثبّت في الابتداء بلاغة، وبعده عيّ وبلادة.
وقال المتنبي:
إذا ساَء فِعْلُ المَرْءِ ساَءتْ ظُنونُه *** وصدَّقَ ما يعْتادُه مِنْ تَوَهّمِ
وعادى مُحبّيه بقولِ عِداته *** فأصْبَحَ في داجٍ من الشَّكِّ مُظْلمِ
وقال عبدة بن الطبيب من أبيات يعظ فيها بنيه:
لا تأمَنوا قوْماً يَشِبُّ صبيُّهمْ *** بينَ القبائلِ بالعَداوةِ يُنْشَعُ
إنّ الذينَ تَرَوْنَهم إخوانكم *** يَشْفي غليلَ صُدورِهِمْ أنْ تُصْدَعوا
فَضلَتْ عَداوتُهم على أحْلامِهمْ *** وأبَتْ ضبابُ صُدورِهِمْ لا تُنْزَعُ
قومٌ إذا دَمَسَ الظّلامُ عليهمُ *** هَدَجوا قَنافِذَ بالنَّميمةِ تَمْزَعُ.
ومن تقوى القلوب التَّثبت من الأخبار والتَّحقُّق مِنَ الآثار، فإذا ثار الشَّر بين النَّاس، ورأيت النَّاس يتهافتون عليه، ويقعون في الهلكة، فلا تكن إمَّعة تميل حيث الرّيح تميل، وكن ورعاً تقيّاً منَّاعاً للشَّرِّ، داعياً إلى الخير، فرَّاجاً للعسر، جلّاباً لليسر، ليِّن العريكة مع أهل الإيمان والإنصاف والإصلاح.
وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي