موقف علماء الأمة من تعدد الجمعة في القرية الواحدة:

إن ‌تعدد ‌الجمعة بدون ضرورة خلاف السنة، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي الحيلولة دون تكثير الجمع والحرص على توحيدها ما أمكن اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وبذلك تتحقق الحكمة من مشروعية صلاة الجمعة وفوائدها أتم تحقق، ويقضي على التفرق الحاصل بسبب إقامتها في كل المساجد كبيرها وصغيرها. 

وإنك لتعجب كل العجب عندما ترى تقارب الجوامع في مكان واحد، حتى إن بعضها ليكاد أن يكون متلاصقا، الأمر الذي لا يمكن أن يقول بجوازه من وعى الدين وفهم الشرع.

وإن وجودها بكثرة وبشكل فوضوي في كل بقعة أفقدت غرض الشارع من المعنى المراد، بل أبطلت الغرض العام من الدين والمقصد الأسمى له وهو تضامن الأمة واتحادها وأن لا يتفرقوا في دينهم شيعا. 

وإن الذي يصدع قلبك ويملأ نفسك أسفا ويفعمها عجبا أن ترى بين هؤلاء الذين صدعوا الجماعة واظهروا التفرق علماء على دراية بأمور دينهم. 

ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق عمليا بين صلاة الجمعة والصلوات الخمس، فإنه ثبت أنه كان في في المدينة عدة مساجد تقام فيها صلاة الجماعة ومن الأدلة على ذلك أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي صلاة العشاء وراء النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم إماما صلاة العشاء هي له تطوع ولهم فريضة. 

وأما الجمعة فلم تكن لتتعدد بل كان أهل المساجد الأخرى كلهم يأتون إلى مسجده صلى الله عليه وسلم فيجمعون فيه فهذا التفريق العملي منه صلى الله عليه وسلم بين الجماعة والجمعة لم يكن عبثا فلا بد إذن من النظر إليه بعين الاعتبار.

وقد اختلف العلماء في تعدُّدِ الجمعة في مصر واحد: من كثرة المصلين أو امتلاءِ المسجد العتيقِ أو ضيقِه أو غيرِ ذلك فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد:إن الجمعة في المسجد الثاني باطلةٌ ولا تصح إلا في المسجد العتيق وهو مذهب الأئمةِ الأربعةِ، واستدلوا بما يأتي: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس ينتابون يومَ الجمعةِ من منازلهم والعوالي  فيأتون في الغبار يصيبهمُ الغبارُ والعرقُ فيخرُج منهمُ العرقُ فأتى رسولَ الله صلى عليه وسلم إنسانٌ منهم - وهـو عندي - فقال رسـولُ الله صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تطهـرتم ليومكم هذا. متفق عليه. وعن ابن شهاب الزهري رحمه الله قال بلغنا أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم جمع أهلَ العوالي في مسجده يومَ الجمعةِ فكان يأتي الجمعةَ من المسلمين من كان بالعقيق ونحوِ ذلك، قال أبو داوود: قال مالك العوالي على ثلاثةِ أميالٍ من المدينة. رواه أبوداودَ في المراسيل. عن مجاهد قال: كان الضُّعفاءُ من الرجال والنساء يشهدون الجمعةَ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يأوون إلى رحالهم إلا من الغد من الضَّعف. رواه أبوداوود.  عن بكيرِ بنِ الأشج قال إنه كان بالمدينة تسعةُ مساجدَ مع مسجده صلى الله عليه وسلم يسمع أهلُها تأذينَ بلالٍ فيُصلون في مساجدهم أقربُها مسجدُ بني عمرِو بنِ مَبذولٍ من بني النجار ومسجدُ بني ساعِدةَ ومسجدُ بني عُبَيْدٍ ومسجدُ بني سلِمةَ ومسجدُ بني رابح من بني عبدِ الأشهَلِ ومسجدُ بني زُريْقٍ ومسجدُ بني غِفارٍ ومسجدُ أسلَمَ ومسجدُ جهينةَ ويَشُك في التاسع، زاد يحيى بنُ يحيى في روايته ولم يكونوا يُصلـون الجمعـةَ في شيء مـن تلك المساجـدِ إلا في مسجدِ النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبوداود والدارقطنيُّ والحافظُ في تلخيص الحبير. عن ثويرٍ عن رجل من أهل قباءَ عن أبيه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أمرنا النبي  صلى الله عليه وسلم نشهد الجمعةَ من قُباءَ وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا. رواه الترمذي. عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال إن أهلَ قُباءَ كانوا يُجمِّعون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعةِ. رواه ابن ماجه وابن خزيمة. وعن عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما قال: كانت الأنصار يشهدون الجمعة مع عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه ثم ينصرفون فيَقيلون عنده من الحر ولِتهجير الصلاةِ وكان الناس يفعلون ذلك. أخرجه ابنُ خزيمة. وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أنه كان يأتي من الزاوية على فرسخين من البصرة يَشهَدُ الجمعةَ وأحياناً لا يَشهَدُها. أخرجه البيهقي في الكبرى. عن سعيدِ بنِ زيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما كانا بالشجرة على أقلَّ من ستةِ أميالٍ فيَشهَدانِ الجمعةَ ويدعانِها، قال ويُروى أن عبد الله بنَ عمرٍو بنَ العاص كان على ميلين من الطائف فيَشهدُ الجمعةَ ويدعُها. رواه البيهقي في السنن الكبرى. عن أبي هريرة  رضي الله عنه أنه كان يأتي الجمعةَ من ذي الحُلَيْفةِ يمشي وهو على رأسِ ستة أميال من المدينة. رواه البيهقي في الكبرى.  وعن ابنِ شهاب الزهري أن أهل ذي الحليفة كانوا يُجمِّعون مع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك على مسيرة ستةِ أميال من المدينة. أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي.  وعن محمدٍ بن أبي عَدِيٍّ عن بنِ عونٍ قال كان محمدٌ يُسأل عن الرجل يُجمِّع من هذه المزالفِ فيقول قد كانت الأنصارُ يُجمِّعون من المزالف حول المدينة. أخرجه ابن أبي شيبة.   وعن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ قال: كان أهلُ منىً يحضرون الجمعة بمكة.  رواه البيهقي في الكبرى. وعن يحيى بنِ سعيدٍ أن أبا بكرٍ بنَ محمد بنَ عمرو بنَ حزمٍ أمر أهلَ ذي الحليفةِ بحضور الجمعةِ بالمدينة فكانوا يجمّعون بها. رواه البيهقي في الكبرى. وعن عمرَ رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى وإلى عمرِو بنِ العاص وإلى سعدٍ بنِ أبي وقاصٍ أن يُتخذ مسجدٌ جامعٌ للقبائل فإذا كان يومُ الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع فشهِدوا الجمعةَ. أخرجه في تلخيص الحبير وكذا ورد في عون المعبود. وقال بنُ المنذرِ: لم يختلفِ الناسُ أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجدٍ واحدٍ. أخرجه في تلخيص الحبير وعون المعبود. وقد دلت هذه النصوصُ على عدم تعدُّد الجمعة في البلد الواحد، قال الحافظُ ابنُ حجر: لم تُقم الجمعةُ في عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الراشدين إلا في موضع الإقامةِ، ولم يُقيموا الجمعة إلا في موضع واحد، ولم يجمِّعوا إلا في المسجد الأعظم مع أنهم أقاموا العيدَ في الصحراءِ والبلدِ للضَّعفة، وقبائلُ العرب كانوا مقيمين حول المدينةِ وما كانوا يُصلون الجمعةَ ولا أمرهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم بها، وكلُّ هذه الأشياءِ المنفيةِ مأخذُها بالاستقراء،  فلم يكن بالمدينة مكانٌ يُجَمَّع فيه إلا مسجدُ المدينة. وقال خليلُ بنُ إسحاقٍ في مختصَره: والجمعةُ للعتيق وإن تأخر أداءً. وقال الموَّاقُ: قال الجلاب لا تُصلى الجمعةُ في مصرٍ واحد في مسجدين، فإن فعلوا فالصلاةُ: صلاةُ أهلِ المسجد العتيق. ذكره صاحب التاج والإكليل. وقال الدسوقيُّ في حاشيته: فلا يجوز تعدُّدُه على المشهور ولو كان البلدُ كبيراً مراعاةً لما كان عليه السلفُ وجمعاً للكل وطلباً لجلاء الصدور. قال الشافعيُّ: ولا يُجَمَّع في مصر وإن عَظُم وكثُرت مساجدُه إلا في مسجد واحد والدليلُ عليه أنه لم يُقمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاءُ من بعده في أكثرَ من موضع. انتهى من المهذب والمجموع. وقال ابنُ تيمية: ويجوز إقامةُ جُمُعتين في بلد واحد لأجلِ الشحناء بأن حضروا كلُّهم ووقعت بينهم الفتنة ويجوز ذلك للضرورة إلى أن تزول الفتنة، وتسقُط الجمعةُ عمن يُخاف بحضوره فتنةٌ إذا لم يكن ظالماً، والواجبُ عليهم الاعتصامُ بحبل الله والاجتماعُ على ما يُرضي اللهَ وعدمُ التفرقِ. انتهى كلامه رحمه الله.

قال  عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري (ت ١٣٦٠هـ) في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة ج1 ص 350:  الغرض من صلاة الجمعة هو أن يجتمع الناس في مكان واحد خاشعين لربهم، فتتوثق بينهم روابط الإلفة، وتقوى صلات المحبة، وتحيا في أنفسهم عاطفة الرحمة والرفق، وتموت عوامل البغضاء والحقد، وكل منهم ينظر إلى الآخر نظرة المودة والإخاء، فيعين قويهم ضعيفهم، ويساعد غينيهم فقيرهم، ويرحم كبيرهم صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرهم، ويشعرون جميعاً بأنهم عبيد الله وحده، وأنه هو الغني الحميد، ذو السلطان القاهر، والعظمة التي لا حد لها. ذلك بعض أغراض الشريعة الإسلامية من حيث الناس على الاجتماع في العبادة؛ ومما لا ريب فيه أن تعدد المساجد لغير حاجة يذهب بهذه المعاني السامية، لأن المسلمين يتفرقون في المساجد. فلا يشعرون بفائدة الاجتماع، ولا تتأثر أنفسهم بعظمة الخالق الذي يجتمعون لعبادته خاضعين متذللين، فمن أجل ذلك قال بعض الأئمة: إذا تعددت المساجد لغير حاجة فإن الجمعة لا تصح إلا لمن سبق بها في هذه المساجد، فمن سبق بيقين كانت الجمعة له، وأما غيره فإنه يصليها ظهراً. 

وذكر الإمام السرخسي في كتابه البحر الرائق ج2 ص 142:  والقول بعدم تعدد الجمعة مع الحاجة وكثرة الناس، عسر يأباه سهولة الدين ويسره (وقالت) المالكية والحنبلية: يجوز تعدد الجمعة لحاجة كضيق المسجد عمن يحضر لصلاة الجمعة وكوجود عداوة بين أهل البلد، قال الشيخ منصور بن إدريس: وتجوز إقامتها في أكثر من موضع من البلد لحاجة كضيق مسجد البلد عن أهله وخوف فتنة بأن يكون بين أهل البلد عداوة فيخشى إثارة الفتنة ياجتماعه فى مسجد واحد (وبُعد) الجامع عن طائفة من البلد ونحوه كسعة البلد وتباعد أقطاره.

وقال محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (ت ١٣٣٢هـ) في كتابه إصلاح المساجد من البدع والعوائد ص 60: أما في هذه الأزمنة فقد أفرط في ‌تعدد ‌الجمعة إفراطًا كادت تخرج به الجمعة عن موضوعها ففي مثل دمشق أوشك أن لا يبقى مسجد ولو في حارة إلا ويقام فيه جمعة وكثير من المساجد الصغيرة في أيامنا جدد لها منابر بتمويه الحاجة إليها مما يقسم الأمة تقسيمًا يرثى له، ولا حاجة في كثير منها. وقد يؤذن المؤذن في بعضها أذان المنارة ولم يكمل صف من المصلين.  

وقال السبكي: إن دمشق -سلمها الله- من فتوح عمر إلى اليوم "وهو شهر رمضان سنة 756" لم يكن في داخل سورها إلا جمعة واحدة. ا. هـ وقد اعتمد السبكي في عدة تآليف له بأنه إذا كان في مصر أو قرية جامع يسع أهلها ثم أريد إحداث جمعة ثانية في بعض المساجد أن ذلك لا يجوز.. في فتوى له مطولة. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج أنه أنكر الناس أن يجمعوا إلا في المسجد الأكبر، وكذلك قال ابن عمر: لا جمعة إلا في المسجد الأكبر. وتابع السبكي في ذلك الزركشي والعراقي وابن حجر العسقلاني وعليه قال العبادي: إذا استحال اتساع محل لهم هل تسقط عمن لم يجد له محلا ولم يمكنه ربط بمحل آخر. ا. وقال السبكي رحمه الله: لا يحمل كلام من جوز التعدد بحسب الحاجة على إجازة تعددها مطلقًا في كل المساجد فتصير كالصلوات الخمس حتى لا يبقى للجمعة خصوصية فإن هذا معلوم بطلانه بالضرورة لاستمرار عمل الناس عليه من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم. ا. هـ. يعني أيامه رحمه الله.

وقال ابنه التاج في "معيد النعم": ولقد رأينا منهم - يعني من المسيطرين- من يعمر الجوامع ظانًّا أن ذلك من أعظم القرب فينبغي أن يفهم مثل هذا المسيطر أن إقامة جمعتين في بلد لا يجوز إلا لضرورة عند الشافعي وأكثر العلماء.

قال في فتاوى الشبكة الإسلامية: 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن الأصل أن يجتمع المسلمون في جامع واحد لإقامة صلاة الجمعة، هذا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن من مقاصد إقامة الجمعة اجتماع المؤمنين كلهم وتكثير سوادهم، وإظهار شعار الإسلام وجمع كلمة المسلمين وتحصيل الألفة بينهم.... ليحصل التراحم والتوادد … المطلوب شرعاً. ولهذا قال جمهور العلماء لا يجوز ‌تعدد ‌الجمعة إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، ومثلوا لذلك بالبعد وبضيق المسجد وخشية الفتنة.وعلى ذلك.. فإذا كانت هناك ضرورة تدعو لإقامة جمعة أخرى في الجامعة المذكورة فلا مانع من ذلك، أما إذا لم تكن ضرورة لإقامتها فيجب على الجميع الحضور إلى الجامع الأول وإقامة الجمعة مع أهله، هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم.

وكتب إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي